
يا عباد الله اثبتوا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛
إن عداوة الشيطان لبني آدم شديدة، وكيده لهم عظيم، وعلى عباد الله أن يقابلوا هذه العداوة بمثلها، وقد أخبرنا ربنا سبحانه بذلك فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). كما أخبرنا ربنا العظيم أن الشيطان قد أقسم بعزة الله على إضلال بني آدم فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي: لأهلكنّهم ولأضلنّهم، (إلا عِبَادَك منهم المخْلَصين) أي: إلا من أخلص منهم عبادتك، وعصمتَه من إضلالي، فلم تجعل لي عليه سبيلاً، فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه.
فالصراع بين الحق والباطل قائمٌ منذ أن أوجد الله الخليقة على الأرض، وهذا الصراع مبني على سنة التدافع، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾. فالدَّفْع أو التدافع سنةٌ راسخة تقوم بإعادة الترتيب وَفْق سنن الكون الأصلية، تقطع دابر الفساد، وتمنع الإفساد؛ عبرَ تمحيص الصفوف، والحيلولة دون أن يُحقِّق المفسدون وذوو النيات السيئة مآربَهم وأغراضهم، واختبار للأفكار المتدافعة لتمييزِ ما بُني فيها على الحق لنصرته، وما كان مصدرُه الهوى ووحي الشيطان لدحضه ومحْقِه. فكلا الفئتين؛ أفراداً، أو جماعات، أو شعوباً بل ودولاً، يسعى للسيادة والتمكين والغلبة - وكل بحسب أيديولوجياته - وما يمتلكه من وسائل القوة وآليات التقدُّم والتطور للوصول للهدف المنشود.
وهنالك عنصر هامٌ جداً في هذا النزال وتلك المعركة يبدأ من مستوى الفرد صعوداً إلى الجماعة فالأمة أجمع، ألا وهو الثبات على الموقف.. والاستقامة على الحق.. والاستمرار على المبدأ، وعدم التراجع والتنصل والتلون والتقهقر. وقد حثّنا الله سبحانه في أحلك الظروف وأصعب المواقف على الثبات، كما عند القتال إذ يقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)؛ فقد وجّه تعالى المؤمنين أن يلجؤوا إليه بطلب التثبيت بقوله: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، ومن كبائر الذنوب في ديننا الفرار من القتال؛ ولذلك كان من الوصايا العشر التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه: "وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت"؛ فالثبات يزيد المؤمنين قوة، ويُوْقِعُ في نفوس العدو رهبة، وتزعزع المواقف يخذل الصديق ويشمت العدو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمّق هذا المعنى يوم الأحزاب وهو ينقل التراب ويقول: "لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل السكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الأُلَى – الملاء - قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا".
والثبات على الهوية الإسلامية العقدية والسلوكية في أيام الفتن من أعظم الأعمال التي تعبر عن صدق الإيمان إذ وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر"، ومن ذا الذي يثبت قابضاً على الجمر؟! لذلك بشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الثابت من هؤلاء له أجر خمسين من صحابته صلى الله عليه وسلم: "إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم"، وما أشد ما يلقاه المسلمون من الفتن اليوم، فإن الوصية الأساسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي يوصي بها أمته: "يا عباد الله اثبتوا".
والثبات على المداومة على الطاعات في السراء أو الضراء من مظاهر الإخلاص والاستقامة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنّة بنى الله له بيتاً في الجنّة". وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكان أحب الدّينِ إليه ما داوم عليه صاحبه. وحين سئل عليه الصلاة والسلام: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "أدومه وإن قلَّ". وسئل النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
إن الثبات على الدين قضية تشغل فكر دعاة الحق المواجهين للباطل، أولئك الذين يكثرون في دعائهم بما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، وهم يخشون ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشاه على نفسه في مواجهة الجاهلية أن يداهن أو يلين، ولذلك خاطبه ربنا عز وجل بفضله عليه بأن أخلص ولاءه لله: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً*إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ).
والسادة العلماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، ولذلك أوصى أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه العلماءَ بالثبات على هويتهم ومبادئهم وعدم التذبذب في المواقف مجاراة للمصالح دنيوية، فقال: "يا معشر القراء استقيموا، فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً"؛ أي: فذلك الضلال المضل، لأن ضلالة المتذبذب منهم لا تقتصر عليه فقط ولكن يُفتتن بضلاله آخرون.
فالسعيد من وفقه الله تعالى للثبات، وخُتم له بخير ومات وهو يعمل عمل أهل الجنّة إلى أن يرزقه الله التثبيت حين يُسأل، "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر وأسألك عزيمة الرشد". ا.ه.
المزيد من الأخبار
الأكثر قراءة
- السؤال: هل يجوز للمرأة أن ترفض الجماع مع زوجها بسبب عدم شهوتها أو حاجتها حاليا؟وهنا سؤال يطرأ هل للزوجة الامتناع عن الفراش إذا كان زوجها لا يصل بها إلى نشوتها الجنسيّة؟
- جماهير كرة القدم عامة تطالب بتكملة البطولات المحلية وتنتظر مقررات الجمعية العمومية
- مفهوم مجلس النقد والعلاج الواقعي الممكن
- صوناً للبنان.. وفلسطين
- مسؤولية الفرد والمجتمع والمرجعيات الإسلامية في مواجهة التطرف لصالح الوسطية