«ليلة القبض على إسرائيل»: إدانةٌ بالإبادة… لِمَ لا؟
للمرّة الأولى منذ تأسيسها، تجد إسرائيل نفسها قاب قوسين من تعرّضها للإدانة من قِبَل أعلى هيئة قضائية دولية، بعد نجاحها في التملّص من مساعٍ سابقة مماثلة لمقاضاتها دولياً، وعبر الهيئة نفسها، وآخرها في عام 2004، حيث رفضت الاعتراف بسلطة “محكمة العدل الدولية” في البتّ في قضية مثارة ضدّها حول جدار الفصل العنصري الذي أقامته فوق أراضي الضفة الغربية المحتلّة. ويترقّب العالم انعقاد المحكمة، خلال الساعات القادمة، للنطق بـ”الحكم الأوّلي”، في شأن التدابير الاحترازية المؤقتة والعاجلة، التي طلبتها جنوب إفريقيا من أجل حماية الفلسطينيين في غزة، ومنها وقف العمليات العسكرية والسماح بعودة النازحين وإدخال المساعدات الإنسانية بصورة فورية، وفقاً لما ورد في الدعوى المقامة ضدّ إسرائيل. يأتي ذلك بعد نحو أسبوعين من بحث قضاة المحكمة الـ 17 في الحجج القانونية التي عرضها فريق الادعاء، وتلك التي عرضها فريق الدفاع.وفي انتظار البتّ في أصل الدعوى، والمتعلّق باتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة – الأمر الذي قد يستغرق سنوات، ويفضي إلى قرار ملزم ونهائي غير قابل للاستئناف أو الطعن -، من المرجّح أن تعمد المحكمة، خلال جلسة عامة ستعقدها في قصر السلام في لاهاي، برئاسة القاضية الأميركية جوان دونوغو، في متن قرارها، اليوم، إلى فرض التدابير الطارئة المشار إليها. وفي مقابل رفض الفريق القانوني الإسرائيلي لِما جاء في نصّ الدعوى الجنوب إفريقية، بادّعاء أنه يمنع إسرائيل من “حقّها في الدفاع عن نفسها”، و”يعرض صورة مشوّهة للغاية لِما يحدث”، وتعزيزه “حججه” بمزاعم مثيرة للسخرية من قَبيل تعرُّض إسرائيل لـ”إبادة جماعية” على يد فصائل المقاومة الفلسطينية، تصرّ بريتويا على أن تل أبيب أخفقت في الردّ على الأدلّة التي تدينها أمام “العدل الدولية”.
تشريح الموقف الإسرائيلي
على وقْع جلسة عقدها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مع وزراء ومستشارين في مقرّ وزارة الأمن في تل أبيب، ومن بينهم وزير العدل ياريف ليفين، ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، إضافةً إلى رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، والمستشارة القانونية للحكومة غالي بهارا – ميارا، وآخرين، خُصّصت لبحث القرار المتوقّع صدوره عن المحكمة، عكست الدوائر الإعلامية والبحثية الإسرائيلية هواجس القيادتَين السياسية والعسكرية في الكيان. فمن جهته، لفت معهد “ديموقراطية إسرائيل” إلى أن الدعوى إنّما “تمثّل تحدّياً كبيراً لإسرائيل، تتعامل معه الأخيرة بجدّية”، واضعاً إيّاها في إطار “الجهود المستمرّة التي يبذلها الفلسطينيون والعديد من الدول لجعل إسرائيل دولة منبوذة”. وأشار المعهد إلى أن “خسارة الدعوى يمكن أن تضع إسرائيل في موقف إشكالي للغاية على الساحة الدولية”.
وعلى رغم عدم امتلاك الهيئة القضائية آليات تنفيذية أو قوات عسكرية لفرض احترام قراراتها، توقّفت صحيفة “إسرائيل اليوم”، بدورها، عند وجود خشية لدى حكومة نتنياهو من إمكانية تأثُّر المسار العملياتي للعدوان، بفعل أيّ قرار قد يصدر عن “العدل الدولية”. وبحسب الصحيفة نفسها، فإنّه، وفي أحسن الأحوال، “بإمكان المحكمة أيضاً أن تصدر تدبيراً أكثر تساهلاً تأمر بموجبه إسرائيل بوقف الأعمال التي تعرّض المدنيين للخطر”، موضحةً أنّ أمراً كهذا “ليس له تأثير مباشر على إسرائيل، إلّا أنه قد يدفع بعض الدول إلى الاستشهاد به في مجلس الأمن في جهودها لفرض عقوبات عسكرية واقتصادية” على الاحتلال، كما قد يشكل دفعة للضغوط الداخلية المتزايدة على إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، والرامية إلى تقييد دعمه لإسرائيل، ومسوّغاً للمطالبة بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع الأخيرة، علماً أن عشرات الشركات حول العالم، ومنها شركات أوروبية، شرعت بالفعل في وقف تعاملاتها التجارية مع نظيراتها الإسرائيلية.
يلمّح بعض الخبراء إلى أنّ المحكمة قد تلجأ إلى «الحلّ الوسط» بزعم عدم وجود «نزاع قانوني» بين الطرفين
بدورها، رأت صحيفة “هآرتس” أن إدانة “العدل الدولية” لإسرائيل من شأنها أن تتسبّب بعزلتها على المستوى الدولي، وفي إتاحة الفرصة لمحاكمة قادتها ومسؤوليها السياسيين والعسكريين أمام “المحكمة الجنائية الدولية”. وتابعت الصحيفة أن “أمر المحكمة يُلزم إسرائيل من ناحية قانونية، باعتبارها دولة موقّعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، معتبرةً أنه “يمكن إسرائيل أن تقرّر عدم تنفيذ الحكم أو الادعاء بأن الخطوات المطلوبة ليست ذات صلة”، مستدركة بأنه في هذه الحالة “ستكون الدول الأخرى مسؤولة عن اتّخاذ إجراءات خاصة بها ضدّ إسرائيل، على المستوى الدولي”، في إشارة إلى وجود غطاء قانوني لكل الدول لفرض عقوبات على الكيان.
رأي قانوني
من وجهة نظر قانونيين، يشكّل العدوان الإسرائيلي على غزة “حالة نموذجية” للإبادة الجماعية، انطلاقاً من وجود عمليات عسكرية مكثّفة تسير بشكل جليّ ومنهجي في الأماكن المأهولة، ولا تتورّع علناً عن الدفع نحو جعل هذه الأماكن غير صالحة للسكن والتسبب بمعاناة شديدة بالمدنيين الأبرياء فيها، في انتهاك واضح للقواعد الأساسية للقانون الدولي، والتي لا تقبل إضفاء الشرعية على تلك العمليات من منطلق الزعم بأنها “دفاع مشروع عن النفس”. وفي ضوء ترجيح لجوء واشنطن إلى توفير غطاء ديبلوماسي لتل أبيب داخل الأمم المتحدة، وتحديداً عبر تفعيلها “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي، في حال اعتماد “العدل الدولية” قراراً يدين إسرائيل، ويستلزم رفعه إلى المجلس إذا ما رفضت الأخيرة تنفيذه، يرجّح هؤلاء أن يؤدي هذا الإجراء إلى احتجاجات شعبية واسعة في جميع أنحاء العالم، ولا سيما داخل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى الداعمة لإسرائيل، وذلك على خلفية “ازدواجية المعايير” في ردّ أميركا على مزاعم انتهاكات القانون الدولي من قِبَل خصومها الدوليين (الصين وروسيا) ودعمها الثابت للأصدقاء والحلفاء الدوليين المتّهمين بالاتهامات عينها. كما أن الأمر سيعني البدء في تصنيف إسرائيل على نطاق واسع كـ”دولة منبوذة” من جهة، وتعزيز التضامن العالمي مع الفلسطينيين، من جهة ثانية. وفي حال وقوع السيناريو الأقلّ ترجيحاً، وهو خسارة جنوب إفريقيا للدعوى، فإنه سيوفّر “نصراً قانونيّاً” لإسرائيل، وذخيرة سياسية لها لمواصلة عدوانها على غزة.
وما بين السيناريوَيْن، يلمّح بعض الخبراء في القانون الدولي إلى أنّ المحكمة قد تلجأ إلى “الحلّ الوسط”، وذلك بزعم عدم وجود “نزاع قانوني” بين طرفَي الدعوى، وهي حجة كان قد دفع بها بالفعل فريق إسرائيل القانوني. وفي هذا الإطار، دعا أستاذ القانون الدولي والمقارن في “جامعة أوهايو” الأميركية، جون كويغلي، المجتمع الدولي إلى اتّخاذ موقف حازم إذا ما رفضت إسرائيل الامتثال لقرارات “العدل الدولية”، متوقعاً أن تطلب المحكمة من الكيان سحب قواته من غزة ضمن إجراء احترازي، على غرار قرارها في ما يخصّ الدعوى التي رفعتها أوكرانيا ضدّ روسيا عام 2022. وأضاف كويغلي أن “الولايات المتحدة تتعرّض لضغوط قد تمنعها من استخدام الفيتو”، مشيراً إلى أن لجوء إدارة بايدن إلى حماية إسرائيل في أروقة الأمم المتحدة، سيجعلها تبدو “متواطئة مع ممارسات إسرائيل في غزة، وبالتالي فمن الممكن أن تمتنع عن التصويت على القرار بدل استخدام حق النقض”. وتابع أنّه في حال أحجمت إسرائيل عن الالتزام بقرارات المحكمة، “فإن ردّ فعل المجتمع الدولي سيكون له تأثير مهم، وخاصة في ما يتعلّق بمكانة إسرائيل وشرعيتها في هيئات الأمم المتحدة”، موضحاً أنّ إخفاق مجلس الأمن في إلزام إسرائيل بالامتثال للقرار إذا صدر، بفعل “الفيتو” الأميركي، سيفسح المجال لرفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي قد تصدر قرارات باتّخاذ إجراءات ديبلوماسية ضدّ الكيان، قد تصل إلى حدّ سحب السفراء أو فرض عقوبات اقتصادية أو الامتناع عن التعامل مع تل أبيب.
المصدر:”الأخبار”