فنزويلا تجدّد البيعة لثورتها
كما كان متوقّعاً، تواجه الثورة البوليفارية في فنزويلا محاولة انقلاب جديدة بعد إعلان فوز الرئيس نيكولاس مادورو موروس بولاية ثالثة، بعد أن خلف الثائر هوغو تشافيز عام 2013. مهّد الإعلام الغربي، منذ أسابيع، لإعلان إدموندو غونساليس أورياتا، خلفاً للرئيس الفنزويلي المعترف به فقط في عواصم «المجتمع الدولي»، خوان غوايدو، من خلال نشره استطلاعات رأي مطبوخة في الولايات المتحدة، تظهر تفوّق مرشّح المعارضة اليمينية بفرق شاسع عن الرئيس الاشتراكي. وما إن أعلن المجلس الوطني للانتخابات فوز مادورو، حتى انطلقت حملة التشكيك في النتائج، ووصلت بالزعيمة الفعلية للمعارضة، ماريا كورينا ماتشادو، إلى الادّعاء بأنهم حصلوا على 70% من الأصوات من دون تقديم أي دليل لأن «الفنزويليين والعالم كله يعرفون ماذا حصل».وهكذا تستمرّ حملة واشنطن على الثورة البوليفارية التي أتمّت ربع قرن شاهدت خلاله كل أنواع التدخلات ومحاولات الانقلاب. بعض هذه التدخلات جدّي كالحصار الاقتصادي القاسي الذي يعاني منه الشعب الفنزويلي منذ أيام تشافيز. والحجج التي استعملتها واشنطن لفرض العقوبات على كراكاس على مرّ السنين، تشمل مكافحة الإرهاب ومكافحة غسيل الأموال وتجارة المخدّرات، بطبيعة الحال، والقمع السياسي وصون الديمقراطية ولن ننسى مكافحة الفساد. الحجج لا تهم وكلها قد تزول إن عادت فنزويلا إلى بيت الطاعة، وبالفعل تمّ رفع بعض العقوبات خريفَ العام الماضي نتيجة مفاوضات بين إدارة جو بايدن وحكومة مادورو التي كانت منبوذة من البيت الأبيض، لكنها عادت وفُرِضت ربيعَ هذا العام.
ما حفظ فنزويلا هو تأسيس دولة عصيّة على الانقلاب في وجه الإغراءات والتهديدات الإمبريالية
بعض التدخلات ومحاولات الانقلاب كانت كوميدية، مثل الفيلم الذي أدّى دور البطولة فيه خبير الانقلابات الأميركي إليوت أبرامز، السيناتور عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو، والملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، في شباط 2019. يومها نظّم صاحب شركات «ڤيرجين» حفلاً موسيقياً ضخماً على الحدود الكولومبية – الفنزويلية، على أن تعبر جحافل التحرير بقيادة الماريشال أبرامز و«الرئيس الشرعي» خوان غوايدو الحدود نحو قصر ميرافلوريس الرئاسي. لكنّ هؤلاء لم يعبروا الجسر الحدودي. كانت هناك محاولة أخرى، أو فيلم كوميدي آخر، بعدها بعام، لشركة أميركية خاصة تعود إلى ضابط سابق في الجيش الأميركي. كان من المفترض أن يقود جوردان غودرو 300 مسلّح في إنزالٍ بحريًّ و«زحفاً زحفاً نحو كراكاس». إلا أن مخابرات كراكاس كشفتهم باكراً وأسرت المهاجمين (وبينهم جنديان أميركيان سابقان)، وأحبطت الخطة التي غسل يديه منها كل من خوان غوايدو ومعلّمه دونالد ترامب. طبعاً نجحت واشنطن في إحدى محاولاتها الانقلابية، وكان ذلك في الحادي عشر من نيسان عام 2002، حين تمكنت من الإطاحة بهوغو تشافيز، ليعود الأخير إلى موقعه بعد 47 ساعة.
لا يمكننا التكهّن في ما سيكون عليه شكل المحاولة الانقلابية التالية، لكنها حتماً آتية. هنا، لا نتحدّث عن ديمقراطية وانتخابات وعدد الأصوات لهذا أو ذاك في صناديق الاقتراع. الكل يلعب لعبة الديمقراطية، لكنّ المواجهة الجدّية هي في مكان آخر. لنفترض لو أن مادورو كان قد خسر التصويت مقابل مرشّح واشنطن، أتظنّون أن الثوّار الفنزويليين سوف يبقون مكتوفي الأيدي عندما تعود الولايات المتّحدة لوضع يدها على البلاد؟ هل سيبقون متسمّرين أمام نهب الموارد وفرض التقشّف وحرمان الشعب من مكتسباته الثورية في التعليم والصحة والمأكل والمسكن، والتي لم تكن موجودة قبل ربع قرن؟ هل سيرضون بأن تُترجم خيرات بلادهم إلى أبراج في ميامي بيتش كما كان يحدث في السابق؟ وهل سيهرع قائد الجيش لالتقاط الصور مع سفراء يهدّدون بلاده ليلَ نهارَ؟ طبعاً لا.
ما حمى فنزويلا من الهجمات التي لا تهدأ من واشنطن ليس فوزاً في انتخابات. ما حماها هو الوعي الثوري لدى فئة كبيرة من الشعب الفقير الذي لم يعد محروماً. ما حفظ فنزويلا في وجه الانقلابات ليس «دولة المؤسسات والقانون». ما حفظها هو تأسيس دولة عصيّة على الانقلاب في وجه الإغراءات والتهديدات الإمبريالية.
انتهى الاستعراض الانتخابي، لكنّ المواجهة مستمرّة…والثورة أيضاً مستمرّة.
جمال غصن