أخبار لبنانية

التحوّل السوري يحاكي أولويّات واشنطن وتل أبيب: نتائج جانبية أم توجّه استراتيجي؟

يقتضي الإنصاف عدم استعجال الحكم على تجربة جديدة لسلطة تضمّ تناقضات سياسية في أعقد بلد على مستوى الديموغرافيا والجغرافيا والسياسة الدولية في منطقتنا العربية تاريخاً وحاضراً. إلا أن توالي المواقف من المقاومة في لبنان على لسان قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، أظهر أنها تحتل موقعاً متقدماً في الخطاب السياسي للجهات الحاكمة الجديدة في سوريا. وقد تكرر ذلك في العديد من المحطات، من ضمنها مقابلتاه مع «سي إن إن» الأميركية و«تايمز» البريطانية وكلمته في المسجد الأموي.
لم تترك مواقف الشرع أيّ التباس في تظهير تقاطعها مع الأولويات الإسرائيلية – الأميركية على الساحة السورية في ما يتعلق بأهداف واشنطن وتل أبيب إزاء حزب الله ومخططاتهما لتغيير الشرق الأوسط وتفكيك محور المقاومة، مع كل ما يترتّب على ذلك من تداعيات استراتيجية وتاريخية.
ولاكتمال الصورة، اقترنت هذه المواقف بحرص الشرع على إطلاق مواقف مُطمئنة للعدوّ الإسرائيلي، في تعبير يعكس عملياً تموضعاً مُحدّداً – حتى الآن – في ما يتعلق بالصراع مع العدوّ الإسرائيلي. ورغم أن أحداً لا يطالب الجهات الحاكمة الجديدة بفتح جبهة عسكرية مع العدوّ، إلا أن السقف تجاه العدوّ مختلف جداً عن المواقف التي تم إطلاقها تجاه المقاومة. ويلبي هذا السقف الذي يحرص الشرع على تكراره الأولوية الأولى للولايات المتحدة في هذه المرحلة، وخصوصاً أنه شرط ومقدمة لمواصلة الهجوم الإقليمي الذي تشنّه تل أبيب وواشنطن ويهدف إلى إعادة تغيير المشهد الإقليمي وتطويق الجمهورية الإسلامية، وصولاً الى تعزيز الضغوط عليها.

لم تترك مواقف الشرع أيّ التباس في تقاطعها مع الأولويّات الإسرائيلية – الأميركية على
الساحة السورية



رغم ذلك، يوجد من يدعو الى التريّث. لكن مؤشرات الخطاب السياسي المتداول تكشف عن اتجاهات المشهد السياسي المقبل وموقعه في الخريطة الإقليمية. وفي كل الأحوال، فإن مضيّ الوقت وتوالي المواقف كفيلان بمزيد من الإيضاح وتبديد أيّ تقديرات تخالف هذه المؤشرات، وخصوصاً مع حرص القوى الحاكمة على مخاطبة الغرب بتكرار الخطاب والأداء اللذَين يُطمئنان الإسرائيلي ويحاكيان أولويّاته في الساحة السورية.
لا يخفى أن المشهد السوري متعدّد الأبعاد والمفاعيل المحلية والإقليمية والدولية، بفعل موقع سوريا ودورها في معادلة الصراع مع العدوّ وتأثيرها على المصالح والمخططات الأميركية في الشرق الأوسط. ومن الواضح أن قادة القوى الحاكمة الجديدة في دمشق يدركون هذا البعد الاستراتيجي، وعلى رأسهم الشرع الذي يعتمد خطاباً سياسياً يحاكي أولويات المعسكر الغربي، وفي مقدمه الولايات المتحدة. إذ لا يني يؤكد في كل مناسبة على موقفه من حزب الله وعدم السماح بإمداد المقاومة في لبنان بالسلاح، لمنع حزب الله من إعادة بناء قدراته وتطويرها، وهو أحد أهم الأهداف الرئيسية للحرب الإسرائيلية على لبنان، ومن المتعذّر تحقّقه من دون تحوّل استراتيجي في توجهات النظام الحاكم في سوريا.
تبقى مسألة من الجدير إيضاحها، وهي أن كثيراً من الأحداث تنطوي على نتائج جانبية في الطريق الى أهداف منشودة. لكن، عندما تلبّي هذه النتائج أولويات ملحّة لعدوٍّ يشكّل تهديداً وجودياً واستراتيجياً، كالكيان الصهيوني، لا تعود هذه النتائج جانبية أو ثانوية، بل تصبح في مقدمة معايير الحكم على خلفيات وأهداف الحدث الذي حقق هذه النتائج. لذلك، فإن استبدال التموضع الإقليمي لسوريا، بغضّ النظر عن النظام الذي يحكمها، ومحاولة تطويق حزب الله وقطع طرق الإمداد عنه، ليسا ضمن إطار النتائج الجانبية أو الثانوية، وإنما جزء من الأهداف الرئيسية لهذا المتغيّر. وممّا يوضح هذا البعد الاستراتيجي (الى جانب أبعاد أخرى)، الدور المفصلي الذي قامت به سوريا طوال عقود منذ ما بعد اتفاقية كامب ديفيد (1978) التي غيّرت موازين القوى لمصلحة العدوّ، وترجم ذلك باجتياح لبنان عام 1982، حيث تموضعت سوريا كعمق استراتيجي للمقاومة التي غيّرت مجرى التاريخ وأعادت إنتاج معادلات قوى مغايرة لما تبلور بعد كامب ديفيد، وممرّاً لقدراتها التي تعاظمت الى مستويات تجاوزت كل السيناريوات. وانعكس ذلك إيجاباً على المقاومة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني وقطاع غزة، وصولاً الى مواجهة الحرب الأميركية – الإسرائيلية بنسختها الأخيرة من البوابة اللبنانية.

علي حيدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *