السودان ودارفور… حين تصبح الثروة لعنةً على أصحابها
زياد فرحان المجالي
في قلب القارة الإفريقية، حيث تختلط الرمال بالذهب والماء بالنفط، يقف السودان اليوم على مفترق طرق بين التاريخ والجغرافيا، بين ما يملكه من كنوز وما يعيشه من انقسامات. لم تعد دارفور مجرد إقليمٍ ملتهب على أطراف الدولة، بل تحوّلت إلى مرآةٍ تعكس مأساة وطنٍ غنيٍّ بما لا يُقدّر، وفقيرٍ بما لا يُطاق.
منذ استقلال السودان عام 1956، لم يعرف هذا البلد الاستقرار. كل عقدٍ من الزمن كان يفتح صفحة جديدة من الصراع، من الجنوب إلى الشرق إلى الغرب. غير أن دارفور تبقى الحلقة الأخطر في هذا التسلسل، لأنها ليست فقط قضية سياسية أو عرقية، بل مخزونٌ استراتيجي تتقاطع عنده مصالح الداخل والخارج، وتُدار حوله حروب غير مرئية منذ عقود.
دارفور، التي تعني “أرض الفور”، حكمتها سلطنة إسلامية لقرونٍ امتدت حتى مكة المكرمة، حين كان السلطان علي بن دينار يرسل كسوة الكعبة من الفاشر عام 1898. مساحة الإقليم وحدها توازي مساحة فرنسا، وتضم أكثر من 500 ألف كيلومتر من الثروات الطبيعية النادرة. في هذه الأرض يلتقي النفط بالمياه الجوفية والمعادن النفيسة في لوحةٍ يصعب تكرارها في مكانٍ آخر من العالم.
في عمق دارفور يقف جبل مرة، أحد أعاجيب الجغرافيا، إذ تتعاقب فيه الفصول الأربعة في آنٍ واحد، وتنتشر على سفوحه الينابيع والغابات والوديان، في مشهد يجعل منه أشبه بجوهرة خضراء وسط الصحراء. ويؤكد الجيولوجيون أن هذا الجبل يخفي في جوفه معادن استراتيجية، بل إن بعض الأبحاث البريطانية القديمة أشارت إلى احتمال وجود نهر من الزئبق في باطنه، وهو ما يجعل قيمته الاقتصادية والعلمية هائلة.
أما حفرة النحاس جنوب الإقليم، فهي أشبه بخزان طبيعي للثروات. ففي عام 1953 كتب أحد الضباط البريطانيين في مذكراته أن “بريطانيا لو امتلكت حفرة النحاس فقط لبقيت إمبراطورية لخمسمئة عام أخرى”. تقدّر كمية النحاس في تلك المنطقة بنحو 5 مليارات طن، إلى جانب احتياطات كبيرة من الذهب واليورانيوم والمعادن النادرة.
ولأن كل ثروةٍ تجلب أطماعها، لم تكن دارفور بمنأى عن الصراع الدولي. منذ مطلع الألفية، انتشرت فيها قوات دولية قوامها أكثر من مئة ألف عنصر تحت عنوان “حماية المدنيين”، لكن مهمتها الفعلية كانت تأمين الموارد ومراقبة المناجم. وتحوّل الإقليم إلى ساحة تنافس بين شركات تعدين روسية وصينية وغربية، تتخفى خلف شعارات الإغاثة والتنمية.
أما في باطن الأرض، فالحكاية أعقد. فالإقليم يجلس فوق أعظم خزان مائي في إفريقيا، وهو الحوض النوبي، الذي يمتد حتى ليبيا وتشاد ومصر. تشير الدراسات إلى أن هذا الخزان يكفي لإرواء السودان ومحيطه لمئات السنين، ما يجعله كنزًا مائيًا في زمن الندرة والجفاف. ويضاف إليه الحوضان النفطيان الكبيران اللذان يتقاطعان في دارفور على شكل حرف X، أحدهما يمتد من الخليج وإيران مرورًا بالبحر الأحمر، والآخر من نيجيريا وتشاد، ليشكّلا معًا ما يشبه الملتقى النفطي الأعظم في العالم.
في ظل هذه الثروات، يصبح السؤال: لماذا يعيش السودان الفقر والتفكك؟ الجواب بسيط في ظاهره، معقّد في جوهره. فكل محاولة لبناء دولة قوية في السودان كانت تُواجَه بمشاريع تفكيك. انفصال الجنوب عام 2005 لم يكن إلا مقدمة لمشروع أكبر يرمي إلى إعادة رسم خريطة السودان إلى خمس دويلات، على أسس إثنية واقتصادية، لتبقى الثروات تحت السيطرة الأجنبية.
دارفور، في هذا السياق، ليست “مشكلة إنسانية” كما تصفها تقارير الأمم المتحدة، بل ملف جيواستراتيجي مفتوح. الصراع فيها ليس بين عربٍ وأفارقة، بل بين من يملك الأرض ومن يملك القرار، بين من يعيش فوق الثروة ومن يخطط لاستغلالها من بعيد. لذلك تُغذّى النزاعات القبلية وتُضخّ الأسلحة وتُدار الفتن بذكاءٍ مبرمج، حتى تبقى المنطقة مشتعلة بما يكفي لتبرير البقاء الدولي فيها.
السودان اليوم هو المختبر الذي تُختبر فيه معادلات إفريقيا القادمة: هل تبقى الثروات بيد شعوبها، أم تظل رهينة بيد من يرسم خرائطها من الخارج؟
إن ما يجري في دارفور ليس معركة حدود، بل معركة هوية وموارد، تختصر مأساة أمةٍ تمتلك كل أسباب القوة لكنها تُحرم من استثمارها.
ولعل أخطر ما يواجه السودان ليس الانقسام العسكري ولا الحرب الداخلية، بل فقدان الوعي بثروته. فالأمم التي تجهل ما تملك، تُدار دومًا بما لا تريد.
دارفور اليوم ليست لغزًا جغرافيًا فحسب، بل شهادة على أن الله وهب هذه الأرض كنوزًا لا تُحصى، لكن الإنسان لم يعرف بعد كيف يحرسها.
بروكسل

