براءة السلف من أفهام المثبِّطين عن الجهاد
د. محمد أحمد عزب
الجهاد في الإسلام إحدى أهم الشعائر التي قامت عليها الدعوة، وبنيت عليه الحضارة الإسلامية، وقد أوجد أعداء الإسلام لشعيرة الجهاد مفاهيم تنفِّر منه، لكنه يبقى شعيرة عظيمة لا تتلوث أبداً بدعاوى المرجفين، وقد افترى المستشرقون افتراءات ظالمة على الجهاد، لا تتوافق مع واقعه ولا نتائجه، حتى يتحول المسلمون عنه.
وهي شُبَهٌ قديمة عالجها العلماء قديماً وفق مآخذ مَنْ رددها في أزمنتهم، والجديد في الأمر أن يصير التثبيط والتخذيل عن الجهاد ديناً وشرعاً يتعبد به المخذِّلون، ويجعلون من القعود خلف الصفوف وعيب المجاهدين وعظاً يرفعون به الأصوات، ويجترون به المتابعات.
الجهاد إحدى أهم شعائر الإسلام وبُنيت عليه حضارته العظيمة
حين يكون الطعن في المجاهدين والتقليل منهم خارجاً من ألسنة العلمانية ومن لا دين لهم؛ فالأمر يبدو مفهوماً، لكن حين يعيب الجهاد ويثبط عنه بعض مَن تصدروا للعامة باسم الدين وبهيئة المتدينين، يدعمون تلبيسهم على العامة بقال فلان من السلف؛ فالأمر يحتاج لبيان، حتى لا يظن واحد ممن يلوك كلاماً بغير فهم من كتابات بعض السلف أنه ملك المنهج، واستأثر بالصواب، وصار يحاجج بالصحيح من الحجة البيّن من القول، فليس كل من اجتزأ كلاماً من سياقه، أو فهمه وفق هواه، يسوغ له أن يجاهر بفضل القعود خلف الصفوف، ويطعن في المجاهدين.
حتمية الجهاد وضرورته
لا يعد الجهاد شريعة يخجل منها المسلم، بل إن تعطل الجهاد هو الذي سبب الخجل للمسلمين حول العالم، إذا أصبحت كل المذابح التي تتوزع حول العالم معظم ضحاياها من المسلمين، ولننظر للقرن الماضي، وما فعلته آلة الحرب الشيوعية تجاه المسلمين، وما فعله الاستعمار الأوروبي بالشمال الأفريقي ومصر، وبلاد الشام، مروراً بما حدث في فلسطين ولا يزال، وما حدث في يوغسلافيا وغيرها في الصين والهند.. إلخ.
في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تحث على الجهاد، وتبين بعض ضوابطه وفضل أهله، ففي سورة «النساء»: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء) (النساء: 69)؛ والشهداء لا يموتون إلا بقدر مفارقة الدنيا، فهم أحياء عند ربهم يُرزقون.
لا يُعرف عن السلف إلا التشمير عن ساعد الجد في ميدان الجهاد
والأمر بالجهاد في كتاب الله صريح ثابت، ونصوص السُّنة كذلك: «الشهيد لا يشعر بألم الموت» (رواه الترمذي)، «الجهاد هو ذروة سنام الإسلام» (رواه الترمذي)، «الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان» (رواه البخاري)، «أفضل الناس مؤمن مجاهد» (رواه البخاري)، «أفضل الغدوات والرواح هي غدو المجاهد ورواحه» (رواه البخاري)، «غبار الجهاد في صدر المجاهد لا يجتمع مع نار جهنم» (رواه النسائي)، «كل الناس يغلق باب عمله بموته إلا من مات مرابطاً، فإن عمله يظل نامياً إلى يوم القيامة» (رواه أبو داود)، هذه النصوص كلها صحيحة يُحتج بها، لا يماري فيها أحد، ولا يجادل فيها من آمن بالله تعالى، ولكن لننظر كيف كان العلماء يرغبون في الجهاد ويعظمون شأنه.
أقوال العلماء في الجهاد
تنوعت عبارات العلماء في فضل الجهاد وضرورته، يقول شارح الطحاوية: إن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه(1)، ويقول اللالكائي: إن الجهاد ماض منذ بعث الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة(2)، وفي تفسير قوله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، قال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار، إنا لما نَصرَ الله نبيه وأظهرَ الإسلام، قُلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها، وندعُ الجهاد، فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية(3).
افتراءات على منهج السلف
لا يُعرف عن السلف رضوان الله عليهم إلا التشمير عن ساعد الجد في ميدان الجهاد، سواء كان ذلك في جهاد الدفع أو جهاد الطلب، وقد كانوا يتقدمون العامة، ويقفون في مقدمة الصفوف بين الجند.
وقد خرج عبدالله بن المبارك مجاهداً، وذهب الفضيل بن عياض للحج، وكلاهما من خيار المسلمين، فكتب ابن المبارك للفضيل:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
الجهاد ليس شريعة يخجل منها المسلم بل تعطُّله سبَّب الخجل للمسلمين!
فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه، ثم قال: صدق أبو عبدالرحمن ونصحني، ثم قال الفضيل لحامل الرسالة إليه: اكتب جزاء ما حملت لنا: عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟»، فقال: يا نبي الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده، لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهدين ليستن في طوله فتكتب بذلك الحسنات»(4).
وقد فرح بعض المخلفين بمقعدهم خلف المجاهدين، وظنوا أن قعودهم فيه الخير والبركة والنفع للإسلام، ثم لم يسلم منهم المجاهدون الباذلون للمهج والأموال والذرية، بل خرج بعضهم يثبط همم الناس من حولهم، وقد ذكر الكتاب العزيز مواقف بعض الناس في زمان البعثة المحمدية أنهم: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (التوبة: 47).
وروى ابن أبي زمنين بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما مطر القطر من السماء، وسيأتي على الناس زمان يقول فيه قراء منهم: ليس هذا بزمان جهاد، فمن أدرك ذلك فنعم زمان الجهاد»، قالوا: يا رسول الله، وأحد يقول ذلك؟! فقال: «نعم، من عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(5).