بين الغباء والحقد والعقائدية.. تورّطت واشنطن
ناصر قنديل
– كان الطريق سهلاً وواضحاً ومبسطاً أمام الرئيس الأميركي جو بايدن ليصيب ثلاثة عصافير بحجر واحد، وهو يعلم أن وقف الحرب على غزة سوف يتكفل بوقف تدخل اليمن في البحر الأحمر لمنع السفن الإسرائيلية والسفن المتجهة الى موانئ كيان الاحتلال من العبور، وأن وقف الحرب على غزة سوف يتكفل بإعادة الهدوء إلى جبهة لبنان، وأن وقف الحرب على غزة سوف يؤدي إلى وقف سقوط مئات المدنيين الفلسطينيين من نساء وأطفال يومياً نتيجة الغارات الإسرائيلية، ويؤدي حكماً إلى تبادل ينهي قضية الأسرى. وهذه العناوين جميعها أهداف معلنة لإدارة الرئيس بايدن، لكنه لم يسلك هذا الطريق، وفضل القيام بشق طرق منفصلة وعرة لكل من هذه الأهداف، متفادياً السعي لوقف إطلاق النار، بل واضعاً ثقل بلاده في المؤسسات الأممية لمنع صدور مثل هذا القرار.
– الطرق الوعرة التي اختارتها إدارة بايدن تتضمّن مخاطرات استراتيجية، ونتائج غير مضمونة، ذلك أن السعي لوقف الإجراءات اليمنية في البحر الأحمر عبر استخدام القوة العسكرية، فشل من الزاوية السياسية في جذب أقرب حلفاء واشنطن، حيث عبر وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في كلمة له في مؤتمر دافوس عن السبب الحقيقي لرفض السعودية ومصر والصومال وجيبوتي المشاركة في الحلف الذي أنشأته واشنطن لمواجهة اليمن وتقديم تسهيلات له، حيث قال إن إجراءات اليمن ترتبط مباشرة بما يجري في غزة، وإن الحل هو بالذهاب الى وقف إطلاق النار في غزة، بدلاً من الحرب في البحر الأحمر. وعندما اعتقدت واشنطن أن القضية تُحسم بالقوة، وشنت غارات بالتعاون مع بريطانيا على مواقع أنصار الله والجيش اليمني، جاء اليوم التالي ليحمل الأخبار عن مواصلة اليمن إجراءاته في البحر الأحمر والنجاح بتعطيل مرور سفن وإصابة أخرى لم تلتزم بالإجراءات، وصولاً الى استهداف متكرر للأسطول الأميركي. وهذا يعني ان الرهان على حرب خاطفة ونصر حاسم ضرب من الخيال، وأن أميركا تتجه للتورط بحرب شاملة مع اليمن لا تلبث أن تتحوّل الى فيتنام أخرى أو أفغانستان أخرى، وأن الفشل نتيجة حتمية لهذه الحرب كسالفاتها.
– على جبهة لبنان تتردّد واشنطن بين معاندة توجّهات حكومة بنيامين نتنياهو الراغبة بالتصعيد ولو دون معطيات تحقيق انتصار، من جهة، والتعهّد بالضغط على لبنان للحصول على ترتيبات تغني كيان الاحتلال عن خوض غمار حرب مليئة بالمخاطر. وهكذا تصبح معاندة خطر حرب كبرى على حدود لبنان مجرد وصفة مؤقتة لا تلبث أن تنهار أمام ثنائية الصراخ الإسرائيلي بعدم القدرة على تحمّل ضغوط مستوطني الشمال المهجرين، والفشل في انتزاع مكاسب لـ«إسرائيل» من لبنان كبديل مفترض لشن الحرب. وعندما تقع الحرب، سوف تكون المنطقة قد اقتربت من الحرب الإقليمية التي قالت واشنطن إنّها تسهر على منع حدوثها.
– على جبهة غزة، وهي أصل الحرب، تلتف واشنطن على نفسها وهي تطرح أسئلة على حكومة نتنياهو، وتتخذ منها ذريعة للحديث عن خلافات، فهي تقول إن المطلوب بعد نهاية الحرب تسليم غزة للسلطة الفلسطينية، وتقول إن حكومة نتنياهو لا تعلن موافقتها على مبدأ حل الدولتين الذي تتبناه واشنطن، وإن حكومة نتنياهو تتباطأ في الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب في غزة حيث يجب استبدال القصف الموسّع والتوغل البرّي العميق بعمليات مستهدفة، لتخفيف الإصابات بين المدنيين، وإنها دائماً تسعى لتجديد الهدنة وصفقات التبادل حول الأسرى، لكن كل هذا مجرد لغو أميركيّ، ذلك أن واشنطن في حديثها عن تسليم غزة بعد الحرب للسلطة الفلسطينية تتحدّث عن دعم الحرب حتى القضاء على المقاومة، وعندما تتحدّث عن حل الدولتين تتهرّب من الجواب عن سؤال عمره من عمر اتفاق أوسلو الذي قام على أساس حل الدولتين. ماذا عن مصير الاستيطان في الضفة الغربية؟ وماذا عن القدس التي أعلنتها واشنطن عاصمة موحّدة لكيان الاحتلال؟ وهاتان القضيتان هما جوهر الحديث عن حل الدولتين، أما المرحلة الثالثة فهي ليست إلا مرحلة من حرب هدفها القضاء على المقاومة، وليست مشروع حل سياسي أو سلمي للحرب. والواقع أن واشنطن تختلف مع تل أبيب على تكتيكات ادارة الحرب لهدف متفق عليه هو احتلال غزة وإنهاء المقاومة فيها، ولا تنتبه أن الذي فشل هو هذا الهدف وليست التكتيكات المتبعة لبلوغه.
– إدارة بايدن هي صانع الحرب وسيّدها، وقد اختارات منع وقف النار، رغم أنه الطريق الأسهل لبلوغ أهداف معلنة تحدثت عنها، مثل إزالة التعقيدات من أمام الملاحة في البحر الأحمر وتهدئة جبهة لبنان ووقف قتل المدنيين في غزة وإنهاء ملف الأسرى. والسبب واضح هو انها تشترط لبلوغ هذه الأهداف أن تعبر من طريق يضمن تحقيق هدف غير معلن وهو ضمان انتصار كيان الاحتلال. وهي لهذا الغرض مستعدة للمخاطرة بضياع هذه الأهداف نفسها، بل والمخاطرة بمكانة أميركا وقوتها وهيبتها، وربما تعرّض المعركة الانتخابية للرئيس بايدن نفسه للمخاطر.
– السبب ليس حسابات المصلحة الأميركية، ولا نفوذ اللوبي الصهيوني، بل الغباء والحقد والعنصرية، وبالأخص العقائدية الصهيونية للرئيس نفسه، وأغلب طاقمه الحاكم. وجمع ثلاثية الغباء والحقد والتعصب العقائدي يتسبب بعمى البصر والبصيرة، فلا يرى المصاب بهذه الثلاثيّة ما يراه اي عاقل.