الصفقة المفخّخة: محاولة جرّ المقاومة بقدميها إلى المقصلة!
عجز العدو عن تحقيق انتصارات واضحة في غزة، وفشله في الوصول إلى أسراه لدى المقاومة، أو إلى قيادات المقاومة، واتساع دائرة التوتر في المنطقة، ودخول الإدارة الأميركية في موسمها الانتخابي الداخلي، وما نتج من تبعات لقرار المحكمة الجنائية الدولية في حق إسرائيل، وتعاظم الغضب من جرائم العدو ضد الفلسطينيين، كلّ ذلك، تحوّل إلى عنصر ضاغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى حلفائهما المعلنين وغير المعلنين أيضاً.لكن ذلك، لا يعني أن العدو يريد تغيير وجهة الهدف، بل هو يدرس بدعم أميركي تغيير وجهة السير، واللجوء إلى طرق التفافية للوصول إلى الأهداف نفسها. ومثلما استغلوا كل شيء لتبرير الجريمة الوحشية المستمرة، هم الآن يريدون استغلال كل شيء لأجل تمرير مشروعهم الجديد. لكنهم هذه المرة، يريدون مساعدة واضحة من كل حلفائهم من العرب وأطراف المنطقة، ويريدون إدخال المقاومة في فلسطين في فتنة كبيرة، تستهدف شقّ الصفوف من جهة، تمهيداً لتأليب أبناء القطاع ضدهم.
ما تكشفه وقائع من الاتصالات الجارية منذ وقت غير قصير حول مستقبل الحرب في غزة، دلّ على أن البحث يستند أصلاً، إلى فشل العمليات العسكرية في تحقيق أهداف العدوان، وقد دفع تعثّر جيش العدو بالأميركيين، إلى التدخل لأجل «تصويب المسار»، حتى وصل الأمر بإدارة الرئيس جو بايدن إلى التصرف كمن «يريد سوق إسرائيل إلى جنتها بسلاسل»، لكنّ واشنطن تريد الحل الذي يناسب العدو، وتريد الحل الذي يقلّل من حجم الأثمان التي يتوجب عليها دفعها جراء ما يقوم به العدو من جرائم طوال عقود من الزمن.
أما العنصر المزعج في ما يحصل، فيتعلق بالضغوط التي تمارسها واشنطن على حكومات وأطراف عربية وإسلامية بهدف تطويق فصائل المقاومة في فلسطين، ولا سيما حركة حماس. ولذلك، كانت الاتصالات تحصل أساساً بين الولايات المتحدة ومصر وتركيا وقطر. حيث طلبت واشنطن صراحة من هذه العواصم، ممارسة كل الضغوط على فصائل المقاومة بغية إقناعها بالقبول بمقترح أميركي (إسرائيلي) هدفه الأول والأخير، جعل العدو يرتاح من عبء ملف الأسرى الموجودين في غزة. وقد ترجمت الدول الثلاث، تعاونها مع الأميركيين، بجملة من الخطوات التي تصبّ في خانة الضغط على المقاومة، تارة من الباب السياسي وتارة أخرى من الباب الإنساني.
والكلام الذي يصل من هذه العواصم، فيه إغراء كون «المقاومة باتت أمام فرصة قد لا تتكرر، باعتبار أن الإدارة الأميركية لا تملك الوقت والقدرة دائماً لتمارس الضغط على إسرائيل لإقناعها بهدنة إنسانية طويلة قابلة للتحول إلى وقف لإطلاق النار». وفي الكلام أيضاً أنه في «حال ضاعت هذه الفرصة، فإن الوقت سيمر ولن يكون هناك أحد قادر على إقناع إسرائيل بالتنازل»، مروراً بالحديث عن أن «قطاع غزة لم يعد يحتمل المزيد من الموت والدمار، وأن الناس يريدون الهدوء والراحة، وأن صفقة الأسرى الجديدة سوف تفسح المجال أمام مستوى جديد من تدفق المساعدات إلى القطاع، كما إلى إطلاق سراح الآلاف من المعتقلين من سجون الاحتلال». وصولاً إلى القول، بأنه «بعد ما مرّ من وقت على الحرب، يظهر أن العالم سيدير ظهره لما يجري في غزة، وأن الضغط من الرأي العام يتراجع وسوف يتوقف، وأن محور المقاومة لم يقف أصلاً بالشكل المناسب إلى جانبكم، وأن إيران والقوى الحليفة لها لا تريد الدخول في حرب كبيرة، وأن غزة تركت وحدَها وكذا وكذا… إلى آخر المعزوفة التي تستهدف أمراً واحداً: حان الوقت لاتخاذ القرار بوقف إطلاق النار… لكن وقف إطلاق النار على الاحتلال!
فلندعْ جانباً نقاشاً طويلاً عريضاً حول مواقف قيادات فلسطينية كثيرة مما يجري، بما في ذلك قيادات محسوبة على تيار المقاومة، وخصوصاً القيادات الفلسطينية أو العربية المحسوبة على تيار «الإخوان المسلمين».
ولندع جانباً، كل التهويل القذر الذي تمارسه مصر على أبناء غزة كما على مقاوميها، كذلك كل الخبث الذي تتسم به سياسة قطر، والأدوار المشبوهة التي يتطوع لها رجال سلطة رام الله الحاليون أو المنشقون عنها أو الطامحون لخلافتها، ولنعد إلى قوى المقاومة القابضة على الزناد في القطاع ومن ينطق باسمها داخل وخارج فلسطين.
كل المحادثات لم تعرض ضمانة واحدة جدية بوقف شامل للحرب أو رفع للحصار، وما تتوقّعه واشنطن من مصر وقطر هو الضغط على المقاومة فقط
تظهر تفاصيل مملّة عن كل المحادثات التي جرت بشأن صفقة التبادل، أن الولايات المتحدة تدعم العدو في رفض وقف الحرب العسكرية والأمنية ضد القطاع وضد قيادات المقاومة، وأن الوسيطين المصري والقطري لم يحصلا، مطلقاً، على أي وعد أو عبارة واحدة تقول بأن العدو سوف يوقف الحرب في هذا التاريخ أو عند هذه النقطة من البحث. كما تظهر المداولات، أن العدو لا يريد سحب قواته لا من قلب المدن ولا من الشوارع الرئيسية ولا يريد العودة إلى خلف السياج الحدودي، ولا يريد أن يعود النازحون إلى أحيائهم المدمّرة، بل أكثر من ذلك، فإن العدو يكرر على مسامع الوسطاء، أنه يعتبر نفسه في حالة حرب مفتوحة ولو أخذت أشكالاً مختلفة، وأنه لن يقبل بأقل من تصفية قادة المقاومة في قطاع غزة، أو إخراجهم جميعاً (لائحة طويلة جداً) إلى بلد تضمن حكومته بمنعهم من القيام بأي نشاط، كما تظهر المحادثات نفسها، أن الوسيطين المصري والقطري سمعا مباشرة من الأميركيين، بأن الحديث عن وقف لإطلاق النار وفك الحصار، ليس وقتهما الآن، بل يمكن الوصول إليهما في وقت لاحق، وهو كلام بلا أي مستند على الإطلاق.
أما ما يُعرض على المقاومة فعلياً، فهو أن تتخلى عن أقوى الأوراق التي بيدها، وهي ورقة الأسرى، وأن تُترك لمصيرها مع وحش سوف يعود إلى ممارسة أبشع جرائمه ومن دون أي رادع. أما محاولة إحراج المقاومة، بأن الصفقة سوف تحرر آلاف الأسرى من سجون العدو، وتدخل مساعدات كبرى إلى القطاع، فهي محاولة خبيثة، لأن من هم في الأسر يتحملون الانتظار وقتاً إضافياً، ولأن أبناء غزة، يريدون وقف الحرب لإعادة الإعمار، وليس للتسوّل من خلف خيام أو ركام منازلهم. ومسألة المساعدات تحتاج إلى ضغط أكبر من حلفاء غزة خارج القطاع. وكل الوعود التي تُقدم كلامياً، ويعمل القطريون والمصريون على تسويقها، ليس فيها أي ضمانة بتحقيق ما يجب أن تحصل عليه غزة الآن، وأوله وقف كامل وشامل للحرب، وانسحاب كامل وشامل لقوات الاحتلال، ورفع كامل وشامل للحصار عن القطاع مع ضمانات تصدر عن أكثر من جهة دولية بأن عملية إعادة الإعمار سوف تبدأ في الساعات التي تلي مباشرة بدء سريان وقف إطلاق النار.
أمس، استمرت المشاورات الجارية بين فصائل المقاومة، ولا سيما بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إن على مستوى القيادتين السياسيتين في الخارج، أو على مستوى القيادتين الميدانيتين في الداخل، وحتى ساعات الليل، كان الموقف واحداً: لا معنى لأي صفقة ليس فيها وقف تام للحرب ورفع للحصار وبدء الإعمار.
خلاف ذلك، فإن ما سوف يحققه العدو من المقترح الذي سوّق له الأميركيون وسار به المصريون والقطريون، إنما يحقق لإسرائيل بعض أهدافها، ويوقف عمل جبهات المساندة خارج فلسطين، ويجعل المقاومة وحيدة، تسير بقدميها إلى المقصلة… وكل هؤلاء، من المعتدين أو من المتضررين، إنما يريدون جميعاً رأس المقاومة!
المصدر:”الأخبار”