حروب «اليوم التالي»: إسرائيل تريد خروجاً مشرّفاً
يبدو أن دولة الاحتلال وحركة «حماس» تقتربان من بلورة اتفاق تبادل أسرى، من شأنه أن يؤدي إلى نوع من وقف إطلاق النار، تحت مسميات وفي ظلّ هوامش مناورة مختلفة، تتيح لكلّ من الجانبين تقديم صورة انتصار خاصة به. على أن أهمّ ما في الاتفاق، والذي لم يتبلور حتى الساعة، رغم تفاؤل الوسطاء – أي الولايات المتحدة وقطر ومصر -، يكمن في تفاصيله، التي لا تزال مدار أخذ وردّ وسط سقوف عالية جداً، علماً أن السقوف الفلسطينية أعلى بطبيعة الحال، ربطاً بفشل العدو في تحقيق أهداف الحرب، ووصول عمليته العسكرية إلى حائط مسدود، وهي السمة التي لن تغادر الوعي الجمعي العام، على المقلبَين على السواء، في اليوم الذي يلي الحرب.وعلى هذه الخلفية، يبدو المشهد الإسرائيلي مشبعاً بالتناقضات، إذ إن ممثلي دولة الاحتلال، أي رئيسَي جهازي «الشاباك» و«الموساد»، أعطيا موافقتهما على الخطوط العامة للاتفاق في اجتماع باريس، وهو ما لا يمكن أن يَصدر عنهما، من دون تنسيق مع رأس الهرم السياسي. لكن هذا الأخير، المتمثّل في رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، سارع إلى إطلاق لاءاته في كلّ ما يتعلق بالصفقة العتيدة: لا انسحاب من قطاع غزة، لا إطلاق سراح لأسرى فلسطينيين بالآلاف، ولا وقف تامّاً للحرب. ولربما يمكن فهم ذلك التناقض ربطاً بالتجاذب السياسي في الداخل الإسرائيلي من جهة، والتجاذب مع «حماس» نفسها من جهة أخرى؛ إذ يحرص نتنياهو على عدم إغضاب حلفائه من الفاشيين في الائتلاف الحكومي، في هذه المرحلة، وخصوصاً أن الحرب الداخلية بدأت للتوّ، فيما يرى أيضاً أنه لا حاجة إلى «طمأنة حماس»، ودفعها إلى مزيد من التصلّب في المواقف التفاوضية.
وعليه، يبدو أن جزءاً من تدوير الزوايا، حصل بالفعل: بدلاً من وقف دائم لإطلاق النار، لا قدرة ولا نية لدى إسرائيل للموافقة عليه، يُصار إلى تجزئة صفقة التبادل على مراحل تنفيذ متباعدة، كلّ منها تقابَل بهدنة تامة على الأرض، بما مجموعه أشهر هدوء طويلة، هي في النتيجة وقف للنار من دون إعلان. وبشأن الانسحاب من قطاع غزة، وتحديداً من الحزام الأمني الذي تريد إسرائيل تثبيته بعمق كيلومتر إلى كيلومترين على تخوم القطاع، في شماله ووسطه وصولاً إلى أقصى جنوبه، يمكن تصور «الحلول الإبداعية» التي لم تُطرح حتى الآن على طاولة التفاوض، ومن بينها إمكانية السيطرة الإسرائيلية على هذه المناطق بالنيران عن بعد، مع السماح لسكانها ومزارعيها بالدخول إليها، ضمن صيغة أو أخرى، تتيح لكلّ من الجانبين بلورة رواية انتصار بالنقاط، في هذا الحيّز تحديداً. أما في ما يتعلّق باشتراط «حماس» عودة اللاجئين وإيواءهم، فالأموال العربية، وتحديداً القطرية، جاهزة لتلبية المطلب، وإن كان القبول الإسرائيلي بذلك، سيكون، على الأرجح، مشروطاً بسلة تنازلات وضوابط تُفرض على الجانب الفلسطيني. وعلى المنوال نفسه، يمكن إيجاد حلول لبقية نقاط الخلاف، علماً أن أي اتفاق لا يشمل هدفَي «إزالة حكم حماس، وحماس نفسها»، سيعني بداهة في وعي الرأي العام انكسار إسرائيل في الحرب.
تسير إسرائيل بتثاقُل نحو وقف الحرب، وإن من دون إقرار بذلك
على أيّ حال، تسير إسرائيل بتثاقُل نحو وقف الحرب، وإن من دون إقرار بذلك، نتيجة معادلة باتت شديدة الوضوح: ثمّة جهة مقتدرة مادياً، مع قدرات عسكرية هائلة وسيطرة تامة ودعم خارجي غير محدود، تفشل في كسر حركة مقاومة محدودة الإمكانات، على رقعة جغرافية صغيرة ومحاصرة. وهذا الفشل هو الذي سيُترجَم في أيّ اتفاق محتمل، وإن ظَلّ الطرف المهزوم يسعى إلى أن يبلور ما يمكنه تقديمه بمثابة «صورة انتصار»، أمام جمهوره وجمهور أعدائه، وحلفائه أيضاً، ربّما عبر رفع الإنجازات التكتيكية، ظاهرياً، إلى مرتبة الإنجازات الإستراتيجية، علماً أنه حتى ما جرى إنجازه تكتيكياً في سياق الحرب، باتت تقضمه المراوحة الميدانية المكلفة، وهو ما يعزّز بدوره حظوظ الصفقة العتيدة.
وإذ يُتوقّع أن يؤدي استمرار سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة إلى إفساد كلّ المخططات التي وُضعت لليوم الذي يلي، من إسرائيل وغيرها، فإن الحروب التي سيخوضها الجانبان، في مرحلة ما بعد القتال، ستكون أقسى من الحرب الحالية نفسها، وخصوصاً أنه ستُضاف إليها مواجهات بينية على جبهات أخرى، في مقدّمتها الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي يُرجَّح استعارها بشكل أكبر في المرحلة القادمة، في ظلّ رفض المتطرفين الإقرار بالواقع. وهو إنكارٌ يجلّيه مثلاً قول عدد من مسؤولي الصف الأول في تل أبيب إن «الحرب ستستمر أشهراً وسنوات وربما جيلاً كاملاً»، علماً أن وعداً كهذا لا يفعل أكثر من تأكيد الفشل نفسه في كسر حركة «حماس»، والذي لن تغيّره استطالة الحرب لسنوات.
المصدر:”الأخبار”