تزايد العوامل الضاغطة لوقف النار
لعل واحدة من السمات التي حكمت الحرب الدائرة في قطاع غزة، هي التزايد اليومي لقوّة العوامل الضاغطة على نتنياهو والقيادة الصهيونية، لوقف إطلاق النار، فيما راح نتنياهو، ومعه قيادة الحرب، يزدادان عناداً وتصميماً على مواصلة حرب العدوان على المقاومة، وحرب الإبادة والتدمير على الشعب والعمران في قطاع غزة.وإن ما يجب أن يُلاحظ في هذه السمة، هو استمرار الرفض الأميركي لوقف الحرب، ولكن مع الضغط على نتنياهو ليقبل بهدنة، وتبادل جزئي للأسرى.
لقد شملت هذه السمة الرأي العام العالمي، والتظاهرات الشعبية، والموقف الأميركي الداخلي، والأوروبي الرسمي، كما مواقف دول العالم عموماً. وذلك إلى جانب نتائج الحرب في الميدان، كما جبهات المشاركة التي فُتحت في لبنان والعراق واليمن (محور المقاومة). هذا مع متابعة الوضع الداخلي للكيان الصهيوني وتناقضاته، وملاحظة مزدوجي الموقف من الدول التي تدعمه، مع المطالبة بهدنة، أو بوقف إطلاق النار.
ووصل فعل هذه المعادلة خلال الأسبوع الفائت إلى حدّ دخول مخابرات عدد من الدول في تفاوض حثيث لإيجاد اتفاق تهدئة، لعدة أسابيع، مع تبادل جزئي للأسرى، ودخول المعونات الطبية والغذائية، بما في ذلك النفط والماء. فكان الانتقال إلى مفاوضات جادّة وحثيثة من جانب أميركا، على الخصوص، وبمشاركة الموساد والشاباك، يشير إلى تزايد قوّة العوامل الضاغطة لوقف إطلاق النار، كما يتضمّن تراجعاً في موقف نتنياهو ومجلس حربه، وزيادة للضغط الأميركي والبريطاني عليهما.
ثمة واحدٌ من الإشكالات في القوى التي تحضر لمثل هذه الاتفاقية، هو عدم وجود طرف منحاز إلى وجهة نظر قيادة المقاومة وفلسطين، كما هو حال الطرف الأميركي الذي لا يُعتبر منحازاً إلى الموقف الصهيوني فحسب، وإنما هو أيضاً شريك في الحرب واستمرارها، وعدم المطالبة بوقفها.
ولهذا ليس هنالك من يصرّ على وقف إطلاق النار، بداية وقبل كل شيء، يُسأَل المفاوضون الذين يرفضون طرح وقف إطلاق النار، ما السبب أنكم لا تناقشون مشروع اتفاق يبدأ بوقف إطلاق النار؟ أفلا يتضمّن أي اتفاق دون سقف وقف إطلاق النار، العودة إلى إطلاق النار؟ أي إلى الحرب، خصوصاً حرب إبادة البشر، وتدمير الحجر (البيوت والأبنية).
طبعاً ليس بجواب إن قيل إن نتنياهو وعضوَي مجلس الحرب لن يقبلوا باتفاق يشمل وقف إطلاق النار. ولكن، في المقابل، لا تقبل المقاومة باتفاق لا يتضمن وقف إطلاق النار، أو في الأقل يمهّد، حقيقة، لاتفاق لا يتضمن العودة إلى حرب العدوان، وحرب الإبادة. علماً أن المقاومة وقيادتها يدهما هي العليا في ميدان الحرب البريّة. ولا شيء يضغط سوى حرب إبادة المدنيين، وتدمير الحجر. وهي حرب مدانة من القانون الإنساني الدولي، ولا يستطيع أحد غير الطرف الصهيوني أن يُسوّغها أو يُدافع عنها. ولا يحق لأي مفاوض أن يدخل دماء المدنيين في المساومة، ويضغط بسببها، أو استغلالها لعقد اتفاق لا يقوم أولاً على أساس وقف إطلاق النار (وقف القتل الجماعي للمدنيين).
طبعاً قرار قيادة المقاومة، حتى كتابة هذه السطور، يرفض ما يُعرض عليها من اتفاق لا يتضمن أولاً وقف إطلاق النار، وسحب قوات العدوان، وفك الحصار، وعدم عودة حرب الإبادة، وهي شروط عادلة يجب أن تُؤيَّد بلا تحفظ.
أمّا إذا عادت قيادة المقاومة لقبول اتفاق بصيغ أخرى، ولاعتبارات تكتيكية تتعلق بوقف قتل المدنيين، ولو مؤقتاً، فلها ذلك، ولها التأييد الفلسطيني والعربي والإسلامي، وبلا تردّد. فالقيادة الموثوقة في الميدان والحرب، موثوقة في توقيع أي اتفاق هدنة مؤقت. وما تجربةُ المقاومة في اتفاق التهدئة الإنسانية السابق (سبعة أيام) إلا قدوة وتعزيزٌ للثقة بها.
لقد طرأت المتغيّرات التالية في الأسبوع الأخير، وصبّت في تزايد قوّة العوامل الضاغطة لوقف إطلاق النار، وهزّت موقف مجلس الحرب الصهيوني، ونتنياهو هزاً، ومجملها الآتي:
– تعزّزت قوّة الرأي العام العالمي، ولا سيما الأميركي والغربي الضاغط لوقف إطلاق النار مع قرار محكمة العدل الدولية التي وضعت الكيان الصهيوني، عملياً، في قفص الاتهام بتهمة ارتكاب جريمة إبادة بشرية. الأمر الذي وجّه صفعة إلى الكيان الصهيوني وقادته.
– ارتباك الرئيس الأميركي جو بايدن، في حملته الانتخابية الرئاسية حيث لم يعقد اجتماعاً انتخابياً واحداً لأعضاء حزبه، إلاّ وانتهى بالفشل، بسبب موقفه من حرب العدوان، وحرب الإبادة البشرية في غزة.
– زاد الموقف الغربي تصدّعاً بسبب الانقسام حول الموقف من وقف إطلاق النار. وقد أعلن بايدن، وديفيد كاميرون، وزير خارجية بريطانيا، مواقف خادعة تتعلق بالاعتراف بدولة فلسطينية، ولكنها تعكس في الآن نفسه تراجعاً سياسياً «تاريخياً» بالنسبة إلى دولتيهما. وذلك بسبب ما حدث من تغيير في موازين القوى فرضته المقاومة، وصمود الشعب في غزة، ورأي عام عالمي ندّد بالكيان الصهيوني، وأعلى صوته بدعم فلسطين.
– تدهور وضع زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، وصولاً إلى احتمال إقالته، ما راح يشكل أزمة أطلسية في حرب أوكرانيا.
– تأزّم موقف نتنياهو مع كل من مصر وقطر. وهو الذي طالما تغنّى بعلاقاته بالدول العربية.
– اللقاء التركي – الإيراني وتلويحه المشترك بتحرك إسلامي في موضوع العدوان على غزة.
– أخذت تبرز إلى العلن التناقضات السياسية ما بين قادة الكيان الصهيوني، وضد نتنياهو، وبداية انقسام حاد في الرأي العام ولا سيما بسبب الفشل العسكري.
– أما العامل الأهم فهو المتعلق بالنتائج العسكرية لحرب العدوان، وقد جاءت في مصلحة المقاومة، وفي غير مصلحة الجيش الصهيوني. هذا وتفاقمت مشاهد جنائز الضباط والجنود القتلى، وأرقام آلاف الجرحى، ودمار الآليات والدبابات يومياً، ما زاد التأكيد على عبثية استمرار جيش الكيان الصهيوني في الحرب البريّة، كما حرب القتل الجماعي ضد المدنيين.
من هنا زادت هذه العوامل، بدورها، الضغط لإطلاق المفاوضات في باريس، ورفع مستوى احتمال التوصل إلى اتفاق قد يخرج نتنياهو من ورطته. لأن سبباً رئيسياً في عناد نتنياهو، ومجلس الحرب في رفض وقف إطلاق النار، يعود لعدم القدرة على ابتلاع الهزيمة، ورؤية قيادة المقاومة والمقاومة والشعب يسيطرون على غزة في صبيحة «اليوم التالي».
والخلاصة، أمام مجموع هذه العوامل، وفي مقدّمها الفشل تلو الفشل يومياً في المواجهة العسكرية البريّة، ومقابلها عناد المقامر الذي يعوّض خسارته بمزيد من الخسائر، أو عناد فاقد الصواب الذي لا مرتكز له في موازين القوى، فإن هزيمة الكيان الصهيوني بقيادة نتنياهو، ومجلس حربه مؤكدة.
من ثم لا بد لهما من الرضوخ لموازين القوى، مهما طالت المعاندة، أو الاستعداد لتحمل الخسائر الفادحة. وأضف إلى ذلك العزلة العالمية، وتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة، وخسارة معركة الرأي العام العالمي، كما خسران المعركة الأخلاقية، ما يعني خسارة المستقبل. والويل لمن يخسرون المستقبل. فكيف إذا كان قريباً بإذن الله، أو يقربونه هم، إذ يخربون بيوتهم بأيديهم، وبأيدي المقاومين، وبسفكهم لدماء الأطفال.
المصدر:”الأخبار”