بهدف إغلاق الحسابات السلبية في رساميلها: المصارف تضارب بالليرة
خلال الأسابيع الأخيرة، سُجّل في القطاع المصرفي ارتفاع غير مسبوق في فائدة الإقراض اليومي بالليرة بين المصارف، أو ما يعرف بـ«الأنتربنك». السبب الظاهر هو الطلب الإضافي على الليرات التي يسعى مصرف لبنان إلى تجفيفها من السوق بحجّة الحفاظ على ثبات سعر الصرف، لكن هذا الأمر يمارسه مصرف لبنان منذ تولّي وسيم منصوري منصب الحاكم بالإنابة من دون أن تسجّل مستويات مرتفعة في الأنتربنك، ما قد يشير إلى وجود عوامل إضافية تعزّز الطلب على الليرة، من أبرزها سعي المصارف لشراء شيكات بالدولار لتغطية محافظها السلبية.قبل بضعة أيام، وصلت فائدة الأنتربنك (أي فائدة الاقتراض بالليرة بين المصارف ليوم واحد) إلى ذروتها مسجّلة 150%، قبل أن تعود إلى مستويات تتراوح بين 60% و50%. بالتوازي، بدأ بنك الاعتماد المصرفي يعرض على زبائن محتملين نقل حساباتهم بالليرة إلى فروعه بفائدة تبلغ 40%، وهو ما أثار قلق الزبائن الذين باتوا ينظرون سلباً إلى هذا المستوى المرتفع من الفائدة. وبحسب مصادر عاملة في السوق، فإن ثمة أسباباً كثيرة على جانبَي العرض والطلب تدفع فائدة الأنتربنك إلى هذا المستوى المرتفع، وهي:
– مصرف لبنان أوقف تسديد الفوائد على الودائع التي توظّفها المصارف لديه. في السابق، كان يدفع الفائدة مناصفة بين الليرة والدولار، لكنه بعد إقرار التعميم 166 صارت غالبية الفوائد التي يدفعها بالدولار النقدي لتمكين المصارف من تطبيق التعميم القاضي بتسديد 150 دولاراً لكل مودع يستوفي شروط التعميم.
– منذ تولي منصوري موقع الحاكم بالإنابة، فتحت لكل المصارف والمؤسسات حسابات تميّز بين الليرات الفريش وغير الفريش، لذا بات استعمال الليرات غير الفريش مخصّصاً لتغطية متطلبات الاحتياط الإلزامي المترتّب على المصارف، بينما الليرات الفريش تستعمل من أجل الإقراض بين المصارف وتحقيق أرباح من هذه العمليات.
– يعمل مصرف لبنان منذ انتقال منصوري إلى موقع الحاكمية على تجفيف السيولة بالليرة وسحبها من السوق من أجل منع أي طلب على الدولار، وبالتالي الحفاظ على ثبات سعر الصرف. وهذا ما أدّى إلى زيادة الطلب على الليرة في وقت أن الليرة باتت تستعمل من أجل تسديد الضرائب التي تودعها الخزينة في حسابها لدى مصرف لبنان وتمتنع عن إعادة ضخّ كميات كبيرة منها في السوق.
– لدى المصارف محافظ سلبية بالدولار المسمّى «دولار مصرفي»، أي أنها باعت الزبائن دولارات لا تملكها وبات لديها حسابات سلبية بالدولار يتوجب عليها تغطيتها من أجل تصحيح ملاءتها المالية. وهذه الحسابات هي بمثابة ديون على رأس المال، وبالتالي فإن التخفيف منها يتيح لها هامشاً أوسع من التحرّك في إطار أي خطة لإعادة هيكلة المصارف. والسبب في كون هذه الحسابات مصدراً أساسياً في تعزيز الطلب على الليرة، أن شراء الشيكات المصرفية بالدولار (أو الدولار المصرفي أو اللولار) هو أرخص. فكل دولار مصرفي يمكن شراؤه بقيمة تتراوح بين 11 ألف ليرة و12 ألف ليرة، بينما شراؤه من مصرف لبنان ثمنه 15 ألف ليرة، وهذا الأخير لا يبيع الدولارات للمصارف لأنه لا يملكها أيضاً. كانت قيمة الحسابات السلبية في رؤوس أموال المصارف تقدّر بنحو 8 مليارات دولار، وبالتالي هي تشكّل عاملاً أساسياً في الطلب على الليرة.
– لدى المصارف مصاريف تشغيلية ما زالت تدفعها بالليرة، سواء لرواتب موظفيها والتقديمات الممنوحة لهم، أو لمصاريف أخرى مثل تسديد الضرائب والرسوم المتوجبة على الأجور المصرّح عنها للضمان الاجتماعي.
الاعتماد المصرفي يعرض 40% فائدة على حسابات الزبائن بالليرة
– ما زالت المصارف تدفع للزبائن ليرات مقابل ودائعهم بالدولار بسعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة. والسيولة بالليرة المطلوبة منها كانت تغطّى من مصرف لبنان في السابق بموجب التعميم 151، لكن مع نهاية صلاحية هذا التعميم بات الأمر على عاتق المصارف مباشرة.
رغم كل هذه الأسباب التي يمكن القول إنها اصطناعية إلى حدّ بعيد، ولا تعبّر فعلياً عن واقع الاقتصاد، ثمة سؤال مطروح متعلق بما تعنيه فائدة الـ 40% التي تدفعها المصارف للزبائن لاستقطاب ليرات توظّفها بما يتراوح بين 50% و150%. نظرياً، الطلب الإضافي على الليرة يفترض أن يحسّن سعرها مقابل الدولار، لكن الفائدة المرتفعة المدفوعة للزبائن يفترض أن تثير قلقهم من الاحتفاظ بالليرات، وهو ما يضعهم أمام خيارين: الانخراط في لعبة «الكازينو» التي تدرّ عليهم أرباحاً طائلة وقد تنفجر في أيّ لحظة وتفرض عليهم ثمناً باهظاً لرساميلهم، أو الهروب من الليرة وبيعها مقابل الاحتفاظ بعملة أجنبية. هذه هي الخيارات التي تعبّر اليوم عن السياسة النقدية التي ينتهجها مصرف لبنان: إنه سوق مضاربات مهما حاول «المركزي» الظهور بشفافية أمام المجتمع المحلي والدولي. واللافت أن الحاكم السابق رياض سلامة كان يدرك أن هذه الخيارات ستظهر إلى العلن، لذا لم يكن يستعمل سعر الفائدة مباشرة من أجل تهدئة السوق، بل كان يلجأ إلى السوق المغلق مع المصارف عبر الهندسات أو عبر فوائد شهادات الإيداع لإخفاء القلق والخوف من انهيار سعر الليرة.
إذاً، كيف سيتصرّف المصرف المركزي إزاء رفع أسعار الفائدة على الليرة إلى 40% وما فوق، فهل يرى أن هذه المضاربات تخدم سياساته في تثبيت سعر الصرف، أم أنه سيترك السوق يتحرّك توازياً مع إبقاء تحرّكاته في دائرة الحلقة الأضيق، أي أنه يجفّف السيولة من خلال دفع الشركات إلى تحويل دولاراتهم إلى ليرات لتسديد ضرائبهم، وعندما تصل حاصلات الضرائب إلى حسابات الخزينة لديه يضع سقوفاً لضخّ السيولة من الخزينة؟
المصدر:”الأخبار”