عبد الباري عطوان
تُقدّم القيادة الفِلسطينيّة في قطاع غزة بشقّيها العسكريّ والسياسيّ درسًا فريدًا في فنّ التّفاوض غير مسبوقٍ في العالم العربيّ، عُنوانه الرئيسي “نعم.. ولكن”، أمّا العناوين الفرعيّة فتتضمّن التأنّي وعدم الاستِعجال في الرّد، والإعداد الجيّد والشّمولي للمطالب الرئيسيّة، وعدم الثّقة مُطلقًا بالوُسطاء، والتّعاطي معهم ليس كسُعاة بريد فقط، وإنّما كمُتواطئين مع الولايات المتحدة الأمريكيّة، وسِياساتها المنحازة لدولة الاحتلال الإسرائيلي لأسبابٍ ليس هُنا مكانُ حصرها.
إدارة الرئيس بايدن تنظر إلى مُفاوضات القاهرة التي جاءت امتدادًا لمُفاوضات قادة أجهزة الاستِخبارات في باريس، من زاوية الحِفاظ على أمنِ الاحتِلال، وإخراجه من ورطته، وأزماته المُتشعّبة والمُتفاقمة عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واستخباريًّا، ومُحاولة تقديم سُلّم يُمكّنه من النّزول من قمّة الشّجرة العالية التي تسلّقها بإرسال قوّاته لاقتِحام قطاع غزة.
الرئيس جو بايدن لم يُحمّل نتنياهو مسؤوليّة فشل المُفاوضات عندما لم يُرسل مبعوثًا عنه للمُشاركة في مُفاوضات القاهرة احتجاجًا على عدم تقديم “حماس” وثيقة بأسماء الأسرى الأحياء، وإنّما وضع اللّوم على المُقاومة التي لم تُرسل ردّها، وهذا كان مُتوقّعًا، ولكن قيادة المُقاومة سحبت البِساط من تحت قدميه عندما أرسلت ردًّا مُتكاملًا يتضمّن مطالب مشروعة، أبرزها وقف شامل لإطلاق النّار، وانسِحاب من كُلّ مناطق القطاع، وعودة جميع النازحين إلى الشّمال، والإفراج عن 160 أسيرًا على رأسِهم الخمسة المُبشّرون بالجنّة: مروان البرغوثي، وأحمد سعدات، وعبد الله البرغوثي، وإبراهيم الحامد، وعبد الله السيّد، علاوةً على جميع النساء والمرضى والأطفال، وجميع مُعتقلي صفقة شاليط، وفتح جميع المعابر أمام المُساعدات.
إنّه الدّهاء القِيادي الفِلسطيني في أبرز صُوره، دهاءٌ معجونٌ بالصّلابة والشّجاعة، وعدم الرّهبة من الاحتلال وقُدراته القتاليّة العالية، والمُعَمّد بالنّفس الطّويل، والاعتِماد على الذّات، والإيمان المُطلق بحتميّة النّصر في نهاية المطاف، والرّهان على توسّع السّاحات، وتطوّرها عسكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا.
مدرسة التّفاوض هذه المدعومة بانتصاراتٍ على الأرض في الوقت نفسه، جديدةٌ على الشّعب الفِلسطيني الذي تعوّد على قيادات قصيرة النّفس، خانعة لإملاءاتٍ عربيّة، ومُصدّقة لأُكذوبة الاعتدال، والمُجتمع الدولي، وامتلاك أمريكا لـ 99 بالمئة من أوراق الحل، ومنهج التّفاوض المفتوح والأبدي، مع العدو للحُصول على فُتات التّنازلات الشّكليّة، وأبرزها قيام دولة وهميّة على الورق وإدمان السّير فوق السّجّاد الأحمر، والاستِمتاعِ بترفِ الطّيران إلى الأمم المتحدة والمُشاركة في اجتماعاتِ جمعيّتها العامّة السنويّة، وإلقاء خِطاباتٍ مِن وفوقِ منبرها استِجداءً للعطفِ والشّفقة.
قيادة المُقاومة في غزة قدّمت ردّها إلى مُفاوضات القاهرة، وأعطت تعليمات لوفدها بأنّه نهائي، وليس موضوع نقاش، أو التّنازل عن أيّ بندٍ فيه، وطلبت منه، أي الوفد، إلى المُغادرة فورًا في حالِ عدم الأخذ بمضمونه، وهذا ما حدث.
مرعوبون من حُلولِ شهر رمضان، شهرُ الفِداء والتّضحية فِلسطينيًّا وعربيًّا، ويُريدون اتّفاقًا بالهُدنة قبل حُلوله، ويقوم الأمريكان في الوقتِ نفسه بإرسال أكثر من مئة صفقة من الأسلحة الأمريكيّة الحديثة إلى دولة الاحتلال سِرًّا، لإنقاذها من الهزيمة وتعزيز استِعداد العودة إلى القطاع بعد انتهاء الشّهر الفضيل، ومُواصلة حرب الإبادة والتّطهير العِرقي بتَصعيدٍ أكبر، ويعتقدون في الوقت نفسه أن هذه الخدعة ستمرّ لأنّهم يُراهنون على الغباء العربيّ الرسميّ المُزمِن، وتشابهت عليهم البَقرُ العربيّة.
القيادة الفِلسطينيّة في قطاع غزة تُدير المعركة سياسيًّا وعسكريًّا برؤيةٍ حاذقة، تنطلق من إيمانٍ راسخٍ بأنّ إطالة أمد الحرب ليست من مصلحة “إسرائيل” التي تتفكّك، ولا من مصلحة أمريكا التي تفقد هيبتها، وتخسر مُعظم مصالحها في الشّرق الأوسط والعالم لصالح أعدائها في الصين وروسيا ومحور المُقاومة.
نشرح أكثر ونقول إن الخسائر البشريّة والعسكريّة والماليّة والمعنويّة الإسرائيليّة بلغت ذروتها، وبات الجيش غير قادر على حماية مُستوطنيه ومنبوذًا من العالم بأسْرِه، ويُواجه حربين رئيسيين واحدة في الشّمال (حزب الله)، وأُخرى في الجنوب (القِطاع)، أدّيا إلى نُزوحِ أكثر من 300 ألف بحثًا عن الأمان في الوسط، ويرفضون العودة إلى مُستوطناتهم رُعبًا من تِكرار مُعجزة “طُوفان الأقصى”، ناهيك عن الهجرة المُعاكسة وهُروب أعداد كبيرة من المُستوطنين إلى بلادهم الأصليّة، وكُنت الأسبوع الماضي في موسكو، وقد لمست هذه الظّاهرة بنفسي، وحصلت على معلوماتٍ من مصادرٍ دقيقة تُؤكّد هذه الحقيقة التي تتكرّر أيضًا في دُولٍ أُخرى مِثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة نفسها، والحَبْل على الجرّار.
إدارة الحرب من قبل القيادة المُبدعة في قطاع غزة سياسيًّا وعسكريًّا، وبالاستِعانة ببعض العُقول الجبّارة، والرّهان على الصّبر الاستراتيجي، والشّارع العربي الوطني الشّريف، والحُلفاء الثّقاة، هذه الإدارة ونظرتها البعيدة المدى بدأت تُعطي ثمارها الطيّبة، فها هي المُقاومة الإسلاميّة العِراقيّة تقصف حيفا والبُنى التحتيّة الكهربائيّة في الشّمال المُحتل، وتصل صواريخها إلى مُستوطنة كريّات شمونة، وقبلها إلى جميع القواعد العسكريّة الأمريكيّة في العِراق وسورية، وها هي صواريخ “حزب الله” غير الدّقيقة (حتّى الآن)، تُحوّل المُستوطنات والمواقع العسكريّة الإسرائيليّة في الجليل إلى كُتلة لهب، أمّا عن اليمن الشّقيق وقوّاته البحريّة التي باتت مُتخصّصةً في إذلال السّفن الحربيّة الأمريكيّة ولأوّل مرّة في التّاريخ مُنذ غزوة بيرل هاربر عام 1941 على أيدي “الكوميكاز” اليابانيين، فحدّث ولا حرج.
لهذه الأسباب كُلّها، مُجتمعة أو مُتفرّقة، تُريد إدارة الرئيس بايدن “سلق” اتّفاقٍ سريع لوقف الحرب في غزة يُنقذ دولة الاحتلال، خاصَّةً بعد أنْ بدأت نيران الحريق تصل إلى ذيلها الانتِخابي، ولكنّها لن تُفلح في مسعاها “المسموم” إلّا بالرّضوخ الكامِل لشُروطِ قيادة المُقاومة في غزة، وهذا ما سيَحصُل في نهاية المطاف، طالَ الزّمن أو قَصُر.. والأيّام بيننا.