Skip to content
عبد الباري عطوان
بِدء القصف الجوّي الإسرائيلي لبعض الأهداف في مدينة رفح فجر اليوم، واستِشهاد 14 شخصًا من بينهم ثلاثة أطفال وثلاث نساء جاء بمثابة الرّد المُهين من قِبَل بنيامين نتنياهو على الرئيس جو بايدن الذي طالبه في مُكالمةٍ هاتفيّة بينهما مساء أمس بعدم اجتِياح المدينة، وإفساح المجال لنجاح مُفاوضات الدوحة التي يُشارك فيها أربعة رؤساء مُخابرات للتوصّل إلى اتّفاق هدنة.
نتنياهو تعمّد إذلال الرئيس الأمريكي وحُكومته ليس بالقصف فقط، وإنّما بتأكيده أيضًا أمام مُشرّعين إسرائيليين بأنّه “لا سبيل لتدمير حركة حماس وباقي فصائل المُقاومة إلّا بالإقدام على اجتياح برّي شامل لمدينة رفح”، وأضاف “أنا أبلغت الرئيس بايدن بتصميمي على استِكمال هذه العمليّة (القضاء على حماس) وليس هُناك خِيارات أُخرى”.
آفي دختر وزير الزراعة وعُضو مجلس الأمن القومي الإسرائيلي كرّر تصريحات نتنياهو هذه في حديث لإذاعة “كان” الرسميّة وقال “لا تُوجد وسيلة أُخرى للقضاء على البُنية التحتيّة الإرهابيّة والعسكريّة لحركتيّ حماس والجهاد الإسلامي في غزة إلّا بالهُجوم على رفح، والعمليّات الجويّة لا تكفي”.
من الواضح أن الرئيس بايدن زعيم القُوّة الأعظم في العالم خسر معركة عضّ الأصابع مع مخدومه وسيده المُفترض نتنياهو، وأثبت الأخير أنّه الحاكم الفِعلي للولايات المتحدة الأمريكيّة، وصاحب القرار النّافذ فيها، وإلّا لما تجرّأ على ضرب عرض الحائط بما جرى الاتّفاق عليه في المُكالمة الهاتفيّة بين الرّجلين، والمُضيّ قُدُمًا بالتّمهيد لاجتِياح رفح بالقصف الجوّي، واقتِحام مُستشفى الشّفاء في مدينة غزة.
النّتائج الأولى والسّريعة لصفعات نتنياهو المُجَلجِلَة للرئيس بايدن ستتمثّل في نسف مُحادثات الدوحة لقادة أجهزة المُخابرات الأربعة (أمريكا، مِصر، إسرائيل، قطر مُمثّلة في رئيس وزرائها) التي كان يُراهن عليها (بايدن) وإدارته، للتوصّل إلى اتّفاقِ هدنة على ثلاثِ مراحل لإنهاء الحرب في القطاع، وإكمال عمليّة تبادل الأسرى، وكانَ واضحًا أن نتنياهو لا يُريد هذا الاتّفاق، ويعمل جاهدًا على تعطيله سواءً بتقليصه لصلاحيّات رئيس الموساد المُشارك في المُفاوضات، أم عودته المُبكرة من الدوحة.
لا نعتقد أن بايدن “المضبوع” من نتنياهو، والمُرتعب أمامه، سيرد على هذه الصّفعات، بل سيَخِرُّ صاغرًا أمامه، وإذا أقدم على أيّ ردٍّ فسيكون بدعمِ هذا الاجتِياح تحت الطّاولة بإرسال المزيد من المُساعدات العسكريّة والماليّة، عبر الجسر الجوّي الذي ما زال قائمًا، وجرى إرسال “عبره” حُمولة 300 طائرة، و50 سفينة، نقلت 35 ألف طن من الذّخائر والمَعدّات على مدى الأشهر الخمسة الماضية من عُمُر الحرب على غزة.
نتنياهو لن ينجح في تدمير البُنى التحتيّة لحركتيّ “حماس” والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، باجتياحه لمدينة رفح بريًّا، بل سيَتَكبّد خسائر عسكريّة بشريّة ضخمة جدًّا، لأنّ المقاومة لن تكون مكتوفة الأيدي، وهي التي استعدّت جيّدًا لهذا الاجتِياح ونصبت العديد من الأفخاخ والمصائد للقوّات الغازية، وتُراهن على الصّبر الاستراتيجي طويل النّفس.
لو عُدنا زمنيًّا إلى الوراء قليلًا، وأعدنا نبش التّصريحات والتّهديدات التي أدلى بها نتنياهو ووزير دفاعه يؤاف غالانت حول سحق المُقاومة وتحرير الأسرى في القِطاع في غُضون أُسبوعين، نجد أنّها مُتطابقة حرفيًّا مع تصريحاته الحاليّة لعِصيان أمريكا المسرحي، والحجج المُبرِّرة للهُجوم على مدينة رفح، التي حثّ أبناء الشّمال للنّزوح إليها باعتِبارها ملجأً آمنًا لن تتعرّض للقصف أو الاجتياح.
كتائب المُقاومة التي صمدت أكثر من خمسة أشهر في أضخم حرب إبادة وتطهير عِرقي إسرائيلي في تاريخ الصّراع والمِنطقة، ستَصمُد حتمًا وتُقاتل برُجولةٍ أعلى وأشرس وتيرة في وجه الهُجوم الإسرائيلي على رفح التي ركّعت شارون، وكانت مقبرةً لقُوّاته ومُستوطنيه وعُملائه بعد هزيمة عام 1967.
فإذا كان نتنياهو وجيشه وقوّات احتِياطه لم تنجح في السّيطرة على جباليا وشِمال القطاع، وفشلت فشلًا ذريعًا في السّيطرة على دير البلح والمغازي والنصيرات وخان يونس وعبسان وخزاعة، وتكبّدت خسائر بشريّة كبيرة جدًّا في جميع المناطق، فهل سيستطيع السّيطرة على مدينة رفح، ثمّ ماذا سيفعل بأكثر من مِليون ونِصف المِليون من أبنائها أو النّازحين إليها، هل سيُرحّلهم إلى المرّيخ؟ أو سيُبيدهم بالكامِل؟
اجتياح رفح لو اكتمل لن يكون تحدّيًا لأمريكا والغرب المُنافق الذي يسير في فُلكها، وإنّما للسّلطات المِصريّة ورئيسها عبد الفتاح السيسي، فهذا الاجتِياح سيُؤدّي إلى أمْرين:
- الأوّل: السّيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الحُدودي، وفكّ العلاقة الجُغرافيّة بين مِصر وفِلسطين، وإغلاق معبر رفح على سُوئه إلى الأبد.
- الثاني: التّهديد المُباشر للأمن القومي المِصري، وتدمير هيبة مِصر عربيًّا وعالميًّا، واستِفزاز الكرامة الوطنيّة لأكثر من مِئة مِليون مِصري يعيشون حالة غليان حاليًّا بسبب حرب الإبادة والتّجويع لأشقّائهم في القِطاع.
مُنذ اليوم الأوّل لبدء الاجتياح البرّي للقِطاع قُلنا في هذا المكان إن المُقاومة باقية وستنتصر، وإن إسرائيل ستُهزم ليس لأنّ المُقاومة قويّة وستُقاتل وستخرج مُنتصرة فقط، وإنّما لأنّ الأرض تُقاتل إلى جانب أهلها، وكلّما طالت الحرب تضخّم حجم انتِصارها وأهلها، والشَّيء نفسه نقوله ونُكرّره اليوم مع بدء اجتياح مدينة رفح، فمَن كان يتصوّر أنّ القوّات البحريّة اليمنيّة ستُغلق البحر الأحمر والمُحيط الهندي ورأس الرّجاء الصّالح، وتجعلها مُجتمعة غير آمنة في وجه الأساطيل وحاملات الطّائرات الأمريكيّة، ومن كانَ يتوقّع أن تتوسّع جبهة جنوب لبنان وتَحرِق المُستوطنات في الجليل، وتُرحّل 150 ألفًا من المُستوطنين؟ ومن كانَ يَحلُم أن تقصف المُقاومة الإسلاميّة العِراقيّة حيفا، ومنصّة كاريش، وإيلات، وقاعدة جويّة إسرائيليّة في الجولان؟
نتنياهو سيَحفُر قبْر المشروع الصّهيوني وسيُعمّقه، وسيُعجّل بحلّ الدّولة الواحدة.. دولة فِلسطين الكُبرى.. وقولوا ما شِئتُم.. والأيّام بيننا.