المساجد.. ودار العبادة العلمانية!
لم يكن المسجد يوماً مجرد دار عبادة في المفهوم الحضاري الإسلامي المستند إلى نص الشرع وتجربة التاريخ، بل كان مركزًا للتعليم، والتشاور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والنشاط الثقافي؛ أي كان مؤسسة شاملة تعكس الوظائف المتعددة التي أسسها النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما بنى المسجد النبوي في المدينة كأول منارة حضارية للإسلام.
فالمسجد في الإسلام يتجاوز مفهوم دار العبادة العلماني، وهو ما جسّده المسجد النبوي الذي كان صغيراً في حجمه الأول كبيراً في إشعاعه الحضاري، ومنذ ذلك الحين ظلت المساجد منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تتخذ لأغراض دينية ودنيوية.
وفي هذا الإطار، تقام في المسجد الصلوات المفروضة، وهو المدرسة الأولى التي يلقن فيها المسلمون تعاليم دينهم، وهو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها كبار الصحابة ومن بعدهم، وهو المحكمة التي يفصل فيها بين الخصوم، وهو مكان استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم للوفود التي كانت تفد عليه رغبة منها في الدخول للإسلام.
ولذا، عقد الإمام البخاري في كتاب «الصلاة» من صحيحه عدة أبواب تتعلق بالمسجد، مثل التعاون في بناء المسجد، وعقد الحلق للتدريس فيه، والقضاء فيه، واللعان بين الرجال والنساء، والتداوي، والنوم فيه، ودخول المشرك للمسجد، وإنشاد الشعر في المسجد، وغيرها من العناوين التي عكست الدور الحضاري للمسجد منذ بدء الدعوة المحمدية.
وقد عبر القرآن الكريم بوضوح عن تجاوز الدور الحضاري للمسجد لمفهوم دور العبادة العلماني في قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ) (النور: 36).
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ {21} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ) (ص: 21)، قال الإمامُ القرطبي: «ليس في القرآن ما يدلُّ على القضاءِ في المسجد إلا هذه الآياتُ، وبها استدَلَّ من قال بجواز القضاءِ في المسجد».
وجاء المستوى التاريخي تطبيقاً عملياً للنص القرآني في أوجه الحياة المدنية، بل حتى في وجهها العسكري أيضاً، فلطالما كان المسجد هو المكان الذي كانت تنطلق منه جيوش المسلمين في الغزوات والفتوحات فكانت بيوت الله منبع نشر الإسلام والقضاء على الشِّرك وتخليص البشرية من الظّلم والعبودية.
تراجع أوروبي
بالمقابل، نشأ مفهوم «دار العبادة» بأوساط بيئات الديانات الكهنوتية في أوروبا خلال العصور الوسطى والحديثة، وتطور نتيجة للتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي مرت بها أوروبا في هذه الفترة، التي أدت إلى تفكك السلطة الدينية وتقليل دور الكنائس في الشؤون العامة.
وكان أحد أوجه تأثير هذا التطور هو التقدم العلمي والفلسفي في فترة النهضة والعصر الحديث، الذي أدى إلى طرح تساؤلات حول دور الدين في المجتمع والحياة العامة، وفي هذا السياق بدأت الأفكار العلمانية تنتشر وترفض تقديس الدين، وهو ما أدى إلى تقليل أهمية المؤسسات الدينية مثل الكنائس والمعابد.
في ذلك الوقت، بدأ المفكرون العلمانيون في إبراز أهمية فصل الدين عن الدولة والحياة العامة، وفي تقديم مفهوم «دار العبادة» الذي يعني مكان العبادة بمعنى ضيق ومحدد، ينفصل عن الحياة اليومية والمجالات الأخرى في المجتمع.
ومن هؤلاء المفكرين في عصر النهضة، وليم الأوكامي الذي دعا إلى «فصل الزمني عن الروحي»، حسب تعبيره، وأكد أهمية «استقلال الإيمان عن العقل»، وغيرها من الأفكار التي ساهمت في تطور الفكر العلماني الذي يرى أن الدين يجب أن يكون مسألة شخصية ولا يجب أن يتدخل في شؤون الدولة والمجتمع.
وبدأت العلمانية، كمفهوم وكحركة اجتماعية، تأخذ شكلها الأكثر وضوحًا في القرن السابع عشر، مع ظهور البرجوازية الصناعية التي شككت في الحق الديني للملوك وسعت لتقليل النفوذ السياسي والاقتصادي للكنيسة.
نظرة علمانية
ولذا يمكن القول: إن مفهوم «دار العبادة» نشأ كجزء من تطور الفكر العلماني والحركات الفكرية التي تطالب بفصل الدين عن الدولة وتقليل دوره في الشؤون العامة، ويعتبر هذا المفهوم جزءًا من عملية تحول في الفكر الغربي تجاه الدين والمجتمع، وهو مرتبط بالنظرة العلمانية التي تنظر إلى العبادة كأمر شخصي يجب أن يبقى خاصاً بالفرد ولا يتداخل مع الشؤون العامة والحياة اليومية.
ولا حاجة لكثير استدلال من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم على أن منطلقات ومبررات مفهوم «دار العبادة» منتفية إسلامياً، سواء من واقع النص الشرعي أو التطبيق التاريخي، فقد بدأت الاستعدادات لفتح مكة من المسجد النبوي، حيث جمع الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين منه وخرج بهم لهدم عبادة الأصنام حول الكعبة.
وكانت خيبر مركزًا يهوديًا قويًا، وخرج المسلمون من المدينة المنورة لفتحها، وكانت الخطط العسكرية تُرسم وتُناقش في المسجد النبوي.
شتان بين ديانات الكهنوت التي تحصر الدين في علاقة بين العبد وربه، وبين دين الإسلام الذي يعرف الدين بأنه المعاملة وبأنه علاقة رأسيه مع الله وعلاقة أفقيه مع الناس، ولذا فإن ما جرى من إسقاط لمفهوم «دار العبادة» على المساجد في بلداننا الإسلامية ليس سوى تراجع حضاري تجب مواجهته بإعادة دور المسجد في حياتنا المعاصرة من خلال العودة إلى الأصول والتأكيد على الدور الحضاري الشامل لبيوت الله تعالى.
كريم الدسوقي