عبد الباري عطوان
لم نَثِق كفِلسطينيين وعرب ومُسلمين في أيّ يومٍ من الأيّام بالمُنظّمات الدوليّة وعلى رأسِها الأمم المتحدة، لأنّ القاسم المُشترك فيها هو العداء لنا والوقوف في خندق الأعداء، وعلى رأسِهم دولة الاحتِلال الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأمريكيّة الدّاعم الأكبر له ومجازره في حقّ أهلنا في فلسطين المُحتلّة، ولهذا لا يجب أن نُعير أيّ اهتمامٍ جدّيٍّ لإصدار السيّد كريم خان المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدوليّة أوامِر باعتقالِ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير حربه يوآف غالانت، علاوةً على ثلاثةٍ من قادة حركة “حماس” هُم المُجاهدون إسماعيل هنية رئيس مكتبها السياسي، ويحيى السنوار قائدها في قطاع غزة، والجنرال محمد الضيف رئيس كتائب القسّام جناحها العسكري، والتّهمة للجميع ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانيّة.
هذه المحكمة التي تُسيطر الولايات المتحدة على قراراتها دُونَ أن تكون عُضوًا فيها (هُناك 124 دولة عُضو) تساوي بين الضّحيّة، أيّ المُقاومة الفِلسطينيّة والجلّاد الإسرائيلي، والأخطر من ذلك عدم إدانة الجلّاد بارتكاب حرب إبادة وتطهير عرقيّ (إعدام 35 ألف مُعظمهم من الأطفال والنّساء)، وتهجيرٍ قسريّ لأكثر من مِليونين، وتدمير ما يزيد عن 95 بالمِئة من مباني ومنازل القطاع بِما في ذلك المُستشفيات والمدارس.
نتنياهو اتّهم المحكمة بمُعاداة السّاميّة، وهاجم المدّعي العام السيّد خان، والشّيء نفسه فعلته الولايات المتحدة الرّاعية الأساسيّة لكيانه العُنصري، والمُشاركة المُباشرة في حرب الإبادة التي يرتكبها في قطاع غزة، من خِلالِ تزويده، أي الكيان وجيشه، بالقنابل والصّواريخ، والطّائرات الحديثة، علاوةً على ألفين من جُنودها.
الولايات المتحدة التي مَجّدت المحكمة ومُدّعيها العام عندما أصدر اتّهامًا مُماثلًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وطالبت باعتقاله فورًا، أدانت هذه المحكمة وقراراتها لأنّها تعتبر نتنياهو وغالانت أبرياء وأقدموا على مجازرهم في قطاع غزة من مُنطَلقِ الدّفاع عن النّفس، وهذا أعلى درجات النّفاق والازدواجيّة ودعم حُروب الإبادة الإسرائيليّة وتبريرها.
نَجْزِم بأنّ المُجاهِدين في قيادة حركة حماس وكتائب قسّامها لم يُكلّفوا أنفسهم عناء قراءة اتّهامات السيّد خان، ولم تهتز شعرة في رأسِهِم قلقًا من احتمالاتِ القبض عليهم، وخاصَّةً السيّدين يحيى السنوار ومحمد الضيف، فالأوّل لم يُغادر القطاع إلّا مرّتين إلى القاهرة بعد 23 عامًا في سُجون الاحتلال، أمّا الثّاني، أي الجنرال الضيف، فلم يُغادر مُطلقًا، ولا نعتقد أنّهما سيتأسّفان على حِرمانهما من قضاء إجازتهما الصّيفيّة على شواطِئ الرّيفيرا الفرنسيّة خوفًا من الاعتِقال من قِبل البوليس الدّولي وتسليمهما للمُثولِ أمام المحكمة.
من سُخريات القدر أنّ ما أغضب نتنياهو من قرار المحكمة المذكور آنفًا، أنّ المدّعي العام ساوى بينه كرئيس وزراء لدولة تدّعي أنّها ديمقراطيّة وحضاريّة، وبين “الإرهابيين” في حركة “حماس”، إنّها قمّة الوقاحة، فأين هذه الديمقراطيّة التي يتحدّث عنها وتقتل أكثر من 20 ألف طفل ويغتصب جُنودها الحرائر، وتُدمّر قوّاتها المُستشفيات، وتفرض الحِصار التجويعيّ على أكثر من مِليونيّ فِلسطيني؟
الشّعب الفِلسطيني وكتائب مُقاومته هُم الذين سيُحاكِمون نتنياهو وكُل جِنرالاته ووزرائه بارتكاب المجازر وحرب الإبادة، ولا يُعوّلون مُطلقًا على محكمة الجنايات الدوليّة وقُضاتها ومُدّعيها العام، وربّما يُجادل البعض بأنّ ما نقوله ينطوي على الكثير من المُبالغة، وردّنا بسيطٌ جدًّا ويتلخّص في سُؤالٍ بسيطٍ جدًّا وهو: من كان يتوقّع أن تصمد المُقاومة الفِلسطينيّة ثمانية أشهر وتَهزِم رابِع جيش في العالم، ومن كانَ يَحلُم بنُزوحِ أكثر من 300 ألف مُستوطن من شِمال وجنوب فِلسطين المُحتلّة، بفِعل “طُوفان الأقصى”، وحرب الاستِنزاف التي تشنّها المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة على مُستوطنات الجليل، وأخيرًا من كانَ يتصوّر أنْ يُغلق أبطال اليمن البَحرَين الأحمر والعربي، وباب المندب وخليج عدن والمُحيط الهندي، وقريبًا جدًّا البحر المتوسّط في وجْهِ السّفن الإسرائيليّة والأُخرى المُتّجهة إلى موانِئ فِلسطين المُحتلّة.. والأيّام بيننا.