جو بايدن: نهاية «صهيوني حتى العظم»
ربّما، لو عاد الأمر إلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، لَما اختار هذه «الصيغة الإخراجية» لانسحابه من سباق الانتخابات الرئاسية، وتمهيد الطريق أمام «استراتيجية الخروج» من المشهد السياسي الأميركي برمّته. فالرئيس «الديمقراطي» وجد نفسه مُكرهاً على القبول بهذا الواقع، بعد فصل طويل من الانتكاسات السياسية، آخرها أداؤه المرتبك خلال مناظرته في وجه المرشح الجمهوري المنافس، دونالد ترامب. وإلى هذه، تضاف هفواته الكلامية، و»عثراته» المتتالية في غير مناسبة، لِما سبّبته له من إحراج على المستوى الشخصي، في ظلّ لحظة تاريخية فارقة، ذات سمات جليّة من الاستقطاب السياسي الحادّ غير المسبوق في المجتمع الأميركي، والذي شكّل نقيض ما سعى إليه بايدن في سنوات ولايته الأربع.
محطّات في سيرة الرئيس «الطويل العمر»
لعلّ من أبرز محطّات السيرة الشخصية للرجل، المتزوج حالياً من جيل جاكوبس، والأب لابنَين وابنتَين، مقتل ابنته نعومي مع والدتها نيليا هانتر في حادث سير مطلع السبعينيات، ثم وفاة ابنه بو بمرض السرطان، في عام 2015، حين كان بايدن يَشغل منصب المدعي العام في ولاية ديلاوير. ولد الرئيس الـ46 لأميركا في عام 1942، في مدينة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا، لأسرة كاثوليكية تعمل في مجال تجارة السيارات، قبل أن ينتقل خلال سنوات لاحقة إلى السكن في أكثر من منطقة ضمن نطاق ولاية ديلاوير، حيث حاز شهادة في التاريخ والعلوم السياسية من جامعة الولاية نفسها في عام 1965، فضلاً عن كونه خرّيج كلية الحقوق في «جامعة سيراكوس» عام 1968. وبعد تخرّجه، بدأ بايدن مشواره المهني في مجال المحاماة، قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى تدريس مادة القانون في جامعات عدة، ويدشّن خطوته السياسية الأولى، بانتخابه عضواً في مجلس مقاطعة نيو كاسل عام 1970، والثانية حين تمكّن من توظيف مهاراته الخطابية وقدرته على الإقناع، في سن الـ29، من أجل التغلّب على منافسه الجمهوري جيه كالب بوغز، في انتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير، عام 1972، ليصبح سادس أصغر سيناتور في تاريخ الولايات المتحدة.
مواقف بايدن المؤيّدة لإسرائيل، جاءت بدافع قناعته التامّة بـ«توأمة في الجين السياسي» للمصالح الأميركية والإسرائيلية
ومع تبوّئه مناصب سياسية رفيعة تحت قبة «الكابيتول» لفترة قاربت الـ36 عاماً، من أبرزها رئاسة «لجنة الشؤون الخارجية»، إضافة إلى عضوية عدد من اللجان الفرعية عن «لجنة الشؤون القانونية»، اكتسب بايدن خبرةً كبيرة في مجالات عدة، كالسياسة الخارجية ومكافحة الإرهاب، ما أهّله لإطلاق حملتَين رئاسيتَين: الأولى عام 1987، التي انسحب منها بعد اتهامه بسرقة خطاب سياسي لزعيم بريطاني؛ والثانية عام 2007، التي ركّز فيها على خطّته المعروفة لتقسيم العراق طائفياً وإثنياً، إلى ثلاثة أقاليم، قبل أن ينسحب من السباق الرئاسي، ويظفر بمنصب نائب الرئيس على مدى ولايتَين في عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما، حتى عام 2012، لينال بعدهما «وسام الحرية الرئاسي»، وهو أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة. أمّا حملته الرئاسية الثالثة، التي تميّزت باختياره كامالا هاريس لتكون أول نائبة للرئيس من أصحاب البشرة السمراء، فقد وضعته في مجابهة صعبة مع الرئيس «الجدلي»، وصاحب «التراث السياسي العنصري» دونالد ترامب. وترتّب عليها الكثير من الإشكاليات السياسية المتّصلة بمزاعم حول تزوير الانتخابات، وما تبع ذلك من واقعة «اقتحام الكونغرس»، التي لا تزال مفاعيلها على المشهد الداخلي الأميركي قائمة.
ويُصنّف بايدن في عداد «الديمقراطيين» المحسوبين على تيار «المحافظين الجدد»، الذين أبدوا حماسةً لغزو العراق عام 2003، وكذلك لقرار تدخّل «حلف شمال الأطلسي» في حرب البوسنة في التسعينيات، فضلاً عن تأييده غير المحدود للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتصويته لمصلحة قرار الكونغرس، أواسط التسعينيات، بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وكذلك لمصلحة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل على مدى عقود، بدعوى أنها «أفضل استثمار قمنا به على الإطلاق»، على حد قوله؛ علماً أنه كان معارضاً لفكرة استخدام الخيار العسكري ضدّ كل من ليبيا وإيران. ومن أشهر العلامات الفارقة التي ميّزت السياسة الخارجية الأميركية في عهده، هو الانسحاب المتهافت للولايات المتحدة من أفغانستان، صيف عام 2021، ودعم واشنطن لكييف في حربها مع روسيا في شتاء عام 2022.
عن الرئيس الأميركي الوحيد المجاهر بصهيونيته
وعن العلاقة الوطيدة التي تربط بايدن الذي يُعدّ أول رئيس أميركي يجاهر بولائه للصهيونية، بكيان الاحتلال، فإن الشواهد كثيرة في هذا المجال، من قبيل تأكيده، في أكثر من مناسبة، دعمه لإسرائيل وللشعب اليهودي. ومن جملة تلك الشواهد، قوله في خطاب ألقاه خلال احتفالية لمناسبة «عيد الأنوار» (اليهودي) تمّ تنظيمها في البيت الأبيض، العام الماضي، بحضور زعماء الجالية اليهودية في الولايات المتحدة وناجين من «الهولوكوست»، إلى جانب أعضاء بارزين في الكونغرس ومسؤولين محليين، إنه «ليس من الضروري أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً»، معقّباً: «أنا صهيوني». وفي الخطبة نفسها، شدّد بايدن على التزامه بأمن إسرائيل والشعب اليهودي، بصورة «حازمة»، مضيفاً أنه «إذا لم تكن هناك دولة إسرائيل، فلن يكون هناك يهودي في العالم آمناً».
وثمّة مَن يتحرّى الجذور الصهيونية خلال السنوات الأولى في حياة الرجل، الذي نشأ على تعاليم والده «المتعاطف مع ضحايا الهولوكوست»، و»المخاطر المترتّبة على السكوت في وجه الشر»، مروراً بذكريات الزيارة الأولى التي قام بها السيناتور الأميركي إلى الأراضي المحتلّة بعد حرب عام 1973، وهي زيارة غالباً ما يتحدّث عنها بايدن من زاوية لقائه رئيسة حكومة الاحتلال في ذلك الوقت، غولدا مائير، وما أسرّته له حول «السلاح السري (للإسرائيليين) الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه»، وتبنّيه الأعمى للمزاعم الإسرائيلية في شأن عدم وجود شعب فلسطيني من الأساس، وصولاً إلى فترة شغله منصب نائب الرئيس، وهي الفترة التي لعب فيها دور «صلة الوصل الدبلوماسية» بين إدارة الرئيس أوباما، والحكومة الإسرائيلية في فترات التوتّر، وليس انتهاءً بمواقفه خلال العدوان على غزة، والتي ظهّرها بـ»خطاب عاطفي»، بعد أيام قليلة من عملية «طوفان الأقصى»، ومن ثم بزيارة إلى إسرائيل حاول فيها التركيز على نسج سردية مشتركة مزعومة بين ما تعرّض له في حياته الشخصية من فقدان لزوجته وولدَيه، وما عايشه مستوطنو «غلاف غزة» إبّان تلك العملية، عبر الإشارة إلى ما سمّاه «الثقب الأسود الذي يولّده فقدان الأحبة». وبحسب متابعين للشأن الأميركي، فإن مواقف بايدن المؤيّدة لإسرائيل، جاءت بدافع قناعته التامّة بـ»توأمة في الجين السياسي» للمصالح الأميركية والإسرائيلية، وضرورة ما يراه «دعماً لحكومة تتشارك مع الولايات المتحدة القيم الديمقراطية، وتكافح من أجل البقاء في منطقة خطيرة»، وليس فقط بداعي استقطاب المال والتأييد السياسي من الجماعات الأميركية الداعمة لإسرائيل، على رغم أنها قناعات كلّفته صراعاً حزبياً مريراً مع «التيار التقدّمي» داخل الحزب الديمقراطي، على وقع تبدّل في توجهات الرأي العام الأميركي حيال إسرائيل، بما أفضى بشكل أو بآخر إلى تراجع حظوظه الرئاسية إلى اللحظة التي أعلن فيها «بيان التنحّي».
اليوم، وإذ يتوارى الرئيس الذي أصرّ طويلاً على تأطير نفسه كأحد مجسّمات «الحلف الأميركي – الصهيوني»، خلف الظلال السياسية داخل واشنطن، وربّما بعدما ظنّ أن سياسة «الارتماء في حضن الصهيونية» ستضمن له ما يمكن اعتباره «غرين كارد سياسياً» للبقاء في سدّة الرئاسة حتى خريف العمر، فهو لا يبدو قادراً على أن يواري خيبته، التي لعبت سياسته الإسرائيلية حيال غزة، ووصْمه بـ»جو سيد الإبادة الجماعية» دوراً كبيراً في هذه «المشهدية»، ليسقط غير مأسوف عليه، وتبقى لعنات مجازر «المستشفى المعمداني»، و»مذبحة الطحين»، وأكاذيبه عن «الإرهابيين الذين يقطعون رؤوس الأطفال»، في أحداث السابع من أكتوبر، وغيرها، تلاحقه حتى خارج أسوار البيت الأبيض.
خضر خروبي