مقالات

هل يجب استبعاد الفرضيّة النوويّة دون نقاش؟

ناصر قنديل

– منذ مدة ثمّة إصرار روسي على اعتبار التأزم الدولي القائم بداية التدحرج نحو نوع من المغامرة النووية، وقد تحدّث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مراراً عن هذا الأمر. وقال إن روسيا سوف تفعّل نظامها النووي تحسباً، وإنها نشرت بعضاً من ترسانتها النووية في روسيا البيضاء استباقاً. ولاحقاً قال إن روسيا تدرس تزويد الذين يواجهون أميركا بأسلحة بعيدة المدى رداً على تزويد أوكرانيا بأسلحة تطال العمق الروسي، ثم زار كوريا الشماليّة وتحدّث عن تعاون استراتيجي معها على كل الأصعدة. وبينما نشرت واشنطن أسلحة متوسطة المدى بينها صواريخ نوويّة في ألمانيا اعتبرت موسكو ذلك كافياً للإعلان عن تعليق العمل بكل الاتفاقيّات الخاصة بتخفيض الترسانة الصاروخية المتوسطة المدى.
– مقابل التحذير الروسيّ من نيّات أميركية خبيثة لدفع المواجهة النووية مع روسيا خطوة إلى الأمام والاختباء وراء أوكرانيا، التي تحدّثت تقارير روسية عن مساعٍ لتزويدها بمقدّمات تتيح امتلاك سلاح نووي تكتيكي، لمنع الانتصار الروسيّ الذي بات أقرب الى الأمر الواقع، وفقاً لاعترافات كبار قادة حلف الأطلسي، يتحدث الأميركيون عن كيفية التصدي للاحتمال النووي بداعي أن الرئيس الروسي قد يكون هو المبادر إلى سلوك الطريق النووي، مع حديثه العلني عن تفوّق نووي تكتيكي واستراتيجي حاسم لصالح موسكو، واعتبار ذلك سبباً مغرياً لخوض غمار المخاطرة، وقد خصّصت مجلة فورين أفيرز عدداً خاصاً لمناقشة فرضية لجوء روسيا إلى الخيار النووي.
– هذا البحث كان يجري بعيداً عن منطقتنا، لكن المنطقة تدخل مرحلة من التصعيد ليس بعيداً عن احتمال تحوّلها الى منطقة المواجهة الدوليّة الأولى بين القوى العظمى، رغم عدم انخراط موسكو وبكين في الصراع الدائر حول غزة بطريقة تنسجم مع ما يتطلّع إليه الفلسطينيون وقوى المقاومة وما ينتظرون منهم، لكن خلال الأسبوع الماضي جرت جملة من التطورات فتحت العين على تسارع الأحداث نحو تغيير في الموقف الأميركي من عنوان، تجميد الشرق الأوسط وإقفال نزاعاته للتفرّغ لمواجهة روسيا والصين، إلى عنوان جديد، يتحدّث عن أن المنطقة في حال حرب مفتوحة تدمج فيها ثلاثة ملفات كبرى، ملف قوة وضعف كيان الاحتلال، وملف الاحتلال الأميركي لسورية والعراق، وملف المكانة الإقليميّة لإيران، والمترتبات الدولية على النفوذ الأميركي ومكانة واشنطن في مواجهة روسيا والصين بفعل ذلك. وبسبب هذا التغيير تحدّث الرئيس الروسي لأول مرة عن خطر تصعيد كبير آت الى المنطقة، قبل أن يحدث شيء من التصعيد الذي نحن في قلبه الآن، بحيث يمكن وضع كل ما جرى بعد كلام بوتين عن التصعيد في قمة استثنائيّة جمعته بالرئيس السوري بشار الأسد وإشارته اللافتة إلى أن سورية معنيّة بهذا التصعيد، باعتباره جزءاً من الخطوات التي تترجم خطة التصعيد التي حذّر منها، والتي أقرت في واشنطن خلال زيارة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. وهكذا تصبح حادثة مجدل شمس ومزاعم الانتقام من حزب الله ثم الذهاب إلى إيران لاغتيال الزعيم الفلسطيني الأول إسماعيل هنية، والحديث الأميركي عن حق الدفاع عن النفس، ثم عن الحماية من أي رد، مجرد حلقات في سلسلة واحدة.
– الذي يفتح الباب للنقاش الواجب جدياً حول الفرضيّة النووية في المنطقة، هو أن موازين القوى التقليدية بين جبهة قوى المقاومة، وفي طليعتها إيران، وفي قلبها سورية، والجبهة الأميركية الإسرائيليّة الموحدة، ليست في صالح أميركا وكيان الاحتلال للذهاب إلى مغامرة بحجم ما تبشر به الاغتيالات، وقد شهدت الشهور العشرة الماضية مواجهات كافية للاستنتاج القاطع بالعجز الأميركي الإسرائيلي من البحر الأحمر الى شمال فلسطين المحتلة إلى غزة، وبغياب أي مؤشرات لحدوث تحوّل لجهة استعداد أميركي لإرسال قوات بمئات الآلاف لخوض حرب كبرى لا تنتهي ولن تنتهي لصالح واشنطن، تجب مناقشة فرضية منح كيان الاحتلال الضوء الأخضر لاستعمال نوع من السلاح التكتيكي المخصّب والفعال، والقادر على إحداث دمار كبير في المنشآت العسكرية الضخمة، لكن بمعايير حرب تقليدية وليس حرب نووية، وثمة من يقول إن بعضاً من تجارب هذه الأسلحة قد اختبر في الحرب على غزة بقياسات صغيرة، فدمّر أبراجاً ومجمعات سكنية مكوّنة من عدة أبنية وقتل المئات من المدنيين.
– تراجع واشنطن عن الاستعداد للتفاوض على انسحاب قواتها من العراق، وقرار بقاء احتلالها في شرق سورية، ومنحها التغطية لنتنياهو لتفجير المنطقة، والاستعداد لحمايته، لا يغيّر منه شيئاً التسريب الأميركي عن الغضب من تصرفات نتنياهو واعتبارها محاولة لتوريطها في حرب كبرى لا تريدها، بينما تحشد واشنطن كل جيوشها وأسلحتها الى المنطقة، ولا تجد طريقاً لتفادي المواجهة إلا قبول الفلسطينيين بحل دون مستوى الحد الأدنى من مطالبهم، وتراجع إيران وقوى المقاومة عن الرد المناسب على الانتهاكات والاعتداءات والجرائم المرتكبة بحقهم من اليمن الى لبنان وفلسطين وإيران، بما يعني وضع الأمور بين حدي نصر سياسي أميركي إسرائيلي أو حرب كبرى تقول واشنطن إنها مجبرة على خوضها مع كيان الاحتلال، وهي قد وفرت لها كل الأسباب مسبقاً.
– هل القطبة المخفية التي تفسر كل هذه الألغاز والمتغيّرات هي مواصلة اللعب على حافة الهاوية أملاً بتراجع قوى المقاومة، وإن لم يحدث ذلك فلا مانع أميركياً من مغامرة اسرائيلية باستخدام اسلحة اميركية حديثة مبنية على التقنيات النووية يمكنها أن تحدث فرقاً في الحرب التقليدية، والقول إنها اسلحة اسرائيلية وإن استعمالها جرى دون معرفة واشنطن، لكن يكون ما حصل قد حصل، تماماً كما يجري الآن مع الاغتيالات، بتوصيفها قبل حدوثها دفاعاً عن النفس، والطلب بعد حدوثها من الذين قتل قادتهم أن يمارسوا ضبط النفس منعاً للتصعيد.
– في مواجهة هذه الفرضية يظهر سيرغي شويغو في طهران، ويطرح بعض الخبراء ضرورة أن تناقش إيران مسألة إعادة النظر بقرارها عدم إنتاج سلاح نووي، بعدما تحوّل إلى ضرورة رادعة، والحديث هنا عن الأنواع الجديدة من الأسلحة التكتيكية المحدودة والموضعية الانتشار والتأثير، ولكن الشديدة الفعالية في دوائر استخدامها جغرافياً، كما يفترض التطلع نحو روسيا والصين لمواقف أكثر تشدداً، ولدعم أكثر فعالية، حيث يبدو أن الرغبة بإغلاق ملف المنطقة على تسويات في منتصف الطريق يتراجع كثيراً، ومحاولة عزل حروب المنطقة عن الصراع الدولي الكبير يتراجع أيضاً، ويصير التوازن الذي تخرج به هذه الجولة مؤسساً للتوازن الدولي الجديد.
– في السابق كان يستبعد دون نقاش البحث بالفرضية النووية باعتبارها طريقاً لدمار العالم، لكن الحديث يدور اليوم عن أسلحة من نوع مختلف تستند إلى التقنيات النووية، لكنها تغيّر مجرى الحروب التقليدية دون أن تستدرج تلك الحرب التي تدمر العالم، فهل يجب أن يسري على هذه الفرضية خيار الاستبعاد دون نقاش؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *