إقطاع المدارس الطائفية: حماية حكومية في وجه المعلمين والأهالي
سبق لنقيب المعلمين في المدارس الخاصة، نعمه محفوض، أن أنذر الحكومة وإدارات المدارس بتنفيذ تحرك مع بداية العام الدراسي الجديد إذا لم تتم تسوية رواتب الأساتذة المتقاعدين وتأليف مجلس إدارة جديد لصندوق التعويضات والتقاعد. وكان أبرز الحلول المقترحة، إقرار مجلس النواب لقانون تعديل قانون تنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة الصادر في 16/6/1956، والذي امتنع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بضغط من البطريرك بشارة الراعي، عن نشره في الجريدة الرسمية حتى بعد صدور قرار من مجلس شورى الدولة بوجوب نشره، وجرى استبداله ببروتوكول بغطاء من وزارة التربية، ثم باتفاق برعاية نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب. وحتى اليوم لم تلتزم كل المدارس بالاتفاق أو البروتوكول، ولم يستطع الصندوق تلبية حاجات المتقاعدين وتأمين مبلغ 650 مليار ليرة لصندوق التقاعد.من يعرقل تنفيذ التعديل القانوني هي إدارات المدارس الخاصة، وتحديداً اتحاد المؤسسات التربوية الطائفية ورعاتها. وهذه العرقلة مفتعلة لتفكيك العقد الاجتماعي بين الدولة والمعلمين في التعليم الخاص والمتمثّل بحماية حقوقهم في القانون. فالسلطة تتهرب من حماية حقوق المعلمين، أحد أطراف العقد الاجتماعي، فيما تتعمّد المدارس الطائفية تفكيك هذا العقد، خصوصاً أنها تعتبره، منذ صدوره، تدخلاً في شؤونها، لا بل امتنعت المدارس الطائفية في محطات عدة عن تطبيق تصحيح الأجور أو تعديلها أو تطبيق السلسلة في كل محطة، وآخرها مرسوم تصحيح الأجور 7426/2012 والقانون 46/2017.
تبرّر المدارس الطائفية التي تحتكر اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة والتمثيل في صندوق التعويضات والتقاعد امتناعها عن تنفيذ تصحيح الأجور والقوانين عموماً، بانعكاسها على أقساط المدارس. أما الحقيقة ففي مكان آخر تماماً، إذ تريد هذه المدارس الضغط على الدولة لدفع الفروقات بأي شكل، تارة بإقرار مساعدة من خزينة الدولة كقانون الـ 500 مليار ليرة عام 2021، وقبلها في القانون 46/1987 والمرسوم الاشتراعي الرقم 95 تاريخ 1983 وإقرار قانون الهوية التربوية 266/2022، وقبلها في الخمسينيات مع محاولة تشريع قانون البطاقة التربوية، وهي قوانين تسعى إلى تمويل التعليم الخاص كلياً أو جزئياً من خزينة الدولة.
الحلقة الضعيفة هم المعلمون الخاضعون لعقد مع الإدارة المدرسية التي تضع على رقابهم سيف المادة 29 من قانون تنظيم التعليم، الخاصة بالصرف التعسفي، وتتحكم – عبر اتحاد المؤسسات التربوية وصندوق التعويضات والتقاعد – بحقوقهم وأجورهم وتعويضاتهم وتقاعدهم، كما تجهد عبر السلطة التنفيذية لتعطيل الاحتكام إلى القضاء بما في ذلك قرارات مجلس شورى الدولة، أو الاعتراض والتشكّي لدى المحاكم المدنية، إضافة إلى تعطيل رعاية الدولة لأي إطار حمائي لحقوق المعلمين، ومن ضمنه العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، إن لجهة حقوق المعلمين في الخاص أو حتى تعزيز التعليم الرسمي وحماية حقوق الأهالي.
أما الحلقة الأكثر ضعفاً التي لا تحظى بتمثيل نقابي فاعل فهم الأهالي، إذ يموّل هؤلاء المدارس الخاصة ويغطون كل المصاريف التشغيلية، ومن ضمنها الأجور والرواتب والإدارة مع هامش ربحي كبير لأصحاب الرخصة، ويغطون عند كل محطة كلفة زيادة الأجور والأرباح المضاعفة للمدارس، من دون أن يملكوا صوتاً واحداً. وعلى مدى العقود الماضية، تم تعطيل كل آليات المحاسبة والمقاضاة من مجالس تحكيمية وقضاء العجلة وحتى المادة 13 من القانون 515/96 والحوكمة والمحاسبة العمومية، بتغاضي السلطات المتعاقبة واستجابتها لضغوط المدارس الطائفية والخاصة. ويتعرض الأهالي دوماً للخيانة من الدولة التي يفترض أن تحمي حقوقهم. فعند إقرار تصحيح الأجور عام 2012، اتفقت المدارس مع وزارة التربية على إضافة بند غير قانوني على الموازنة المدرسية بعنوان «مساهمة في أي زيادة مرتقبة» كذخيرة مالية لحين إقرار سلسلة رتب ورواتب متوقّعة قريباً مع مفعولها الرجعي. وقد دفع الأهالي هذه المساهمة وتأخر إصدار السلسلة حتى عام 2017 التي لم تلحظ مفعولاً رجعياً، فقرّر وزير التربية آنذاك، مروان حمادة أن تُلغى الذخيرة المالية المتراكمة في صناديق المدارس على مدى 5 سنوات أو ما سُمي «مساهمة في أي زيادة مرتقبة» وتصبح حقاً مكتسباً للإدارات المدرسية. وبذلك، تكون السلطة التنفيذية ساهمت في إضافة أرباح صافية وغير مشروعة للمدارس من مساهمة الأهل في هذا الصندوق من دون أن تستشيرهم أو تحصل على موافقتهم عملاً بالعقد الاجتماعي، وقيمتها لا تقل عن مليون دولار كربح صافٍ لكل مدرسة (أكثر من 600 مليون دولار أرباحاً صافية معفاة من الضرائب).
الدولة تدفع 350 مليون دولار منح تعليم، تذهب إلى المدارس الخاصة
يتمسك الأهالي بتطبيق القوانين والعقد الاجتماعي وتفعيل آليات الحوكمة والرقابة بينما يتحدث النقيب محفوض عن تدابير مؤقتة لتسيير الأمور والحصول على المستطاع عبر بروتوكولات واتفاقات جانبية حتى إقرار القانون، والنتائج في التوجّهين متشابهة. فلجان الأهل تقوم بتسويات فردية مع إدارات المدارس كونها لا تمثل تشكيلاً نقابياً، ونقابة المعلمين تنصح المعلمين بعقد اتفاقات مع الإدارات المدرسية لتحصيل بعض الحقوق. والنتيجة ظاهرة للعيان: كل عام تعود نقابة المعلمين للتذكير بحقوق المتعاقدين وحقوق المعلمين في الخدمة، فيما يعلو صوت الأهالي، منذ عام 2012 على الأقل، عند رفع الأقساط وتجاوز حقهم في درس وإقرار الموازنة المدرسية كما ينص القانون 515/96. فيما السلطات التنفيذية تغطي تجاوزات المدارس لجهة حقوق المعلمين أو حق لجان الأهل في ممارسة دورها ورقابتها على الموازنات.
السلطة هنا ليست راعية للقوانين وحامية للحقوق والعقود الاجتماعية، بل هي شريك المدارس الخاصة في نهب المواطنين، معلمين وأهاليَ، كما تسهم في هدر المال العام من خزينة الدولة، مرة أخرى، بالتغاضي عن الحوكمة والتدقيق القانوني وحفظ الحقوق وحق الدولة ضمناً. فمع كل رفع للأقساط تسارع الحكومة إلى رفع مساهمتها في منح التعليم والتقديمات المدرسية من الخزينة العامة، أي من أموال المواطنين. والمفارقة أن الخزينة العامة تدفع، بحسب موازنة عام 2024، نحو 350 مليون دولار على شكل منح تعليم وتقديمات مدرسية لموظفي القطاع العام والمصالح والمؤسسات العامة تذهب بمعظمها إلى القطاعات التعليمية الخاصة، وتعجز عن تغطية صندوق التعويضات والتقاعد بمبلغ أقل من 7.5 ملايين دولار!
كما تعجز عن وضع ضوابط وتنفيذ القانون (كما حصل مع تعميم وزارة التربية الرقم 33). فما هي موانع تنفيذ التعديل الذي أقره مجلس النواب والذي يتضمن رفع اشتراكات صندوق التعويضات من 6 إلى 8% طالما أن الأهالي هم من يدفع هذه الفروقات ذات التأثير الطفيف على الأقساط والتأثير المعنوي والحياتي الكبير على المعلمين؟
إذاً المسألة تنحو إلى المواجهة بين الأهالي والمعلمين من جهة والمدارس الخاصة والدولة من جهة أخرى. الجهة الأولى لا تملك أياً من سبل المواجهة سوى الصراخ، بينما الجهة الأخرى تملك كل عوامل إحقاق الحق.
* باحث في التربية والفنون.
نعمه نعمه