مقالات

حول الرد والردع والحرب والمفاوضات كيف يمكن أن ينجح تكتيكياً ويفشل استراتيجياً؟

ناصر قنديل

– وسط ركام من القمامة يملأ صفحات التواصل وشاشات القنوات الفضائية في تعليقات لا ترقى الى مستوى السياسة على رد المقاومة على كيان الاحتلال باستهداف الوحدة 8200، ولا يمكن فهمها إلا غيظاً من جماعة هذه الوحدة المنتشرين في كل البلاد العربية، وخصوصاً بين النخب السياسية والإعلامية والثقافية والأكاديمية انتقاماً للمؤسسة التي تديرهم وثأراً لإصابة مشغلهم، لا نجد حجة منطقية أو سياقاً عقلياً جديراً بالنقاش، لكن بعض المقالات التي تنشرها صفحة قناة الجزيرة تستحق النقاش لمحاولتها تسخيف ردّ المقاومة والتهوين منه بلغة تلبس ثوب العقل والمنطق، وتأتي من موقع الدفاع عن خيارات المقاومة، لكنها امتداد للخط التقليدي الذي بدأ منذ فتح جبهة لبنان بلغة أستذة على المقاومة في لبنان لما يجب وما ينبغي وما ينفع وما لا ينفع، وصولاً للقول في كل محطة ما بات جمهور المقاومة يسأم سماعه وينفر من لغة التعالي التي تنضح منه، حول خيبة أمل وأداء دون المستوى.
– في إحدى هذه المقالات عرض شيّق لما حققه الرد، وإنجازاته التكتيكية من زاوية النجاح العسكري التقني وإظهار الفشل الاستخباري لدى الاحتلال وإسقاط قدرته على توجيه ضربة استباقية وسلب قدرته على الإنذار المبكر، ولكن استخدام هذه المقدمة من المقبّلات الشهية لتقديم طبق مسموم يقوم جوهره على أن الردّ “أضاع فرصة ذهبية لإحداث تحول جوهريّ في مسار الحرب”، وبعد تكديس مجموعة استعارات واستدارات تنظيرية لمنح النص سويّة ثقافويّة كان يمكن تفاديها، يبقّ البحصة ليقول، كان المأمول “استهداف مراكز المدن، ‏وتوسيع دائرة النار، وإدخال عدة مئات ألوف آخرين من المستوطنين في دائرة النزوح”، ليخلص إلى أن الرد أضعف موقف المقاومة التفاوضي في غزة بدلاً من أن يقوم بتعزيزه، مستطرداً أن الباب مفتوح أمام إيران لتصحيح الخلل عبر ردها والا دخل التفاوض في طريق مسدود وربما واجهت غزة مصيراً قاتماً، ثم يقدم تفسيراً أبوياً لأسباب ذلك الضعف في أداء حزب الله وربما إيران أيضاً، لأن درجة الذعر من التدحرج الى الحرب الإقليمية أكبر مما ينبغي بكثير، وتتسبّب بتقييد الحركة ما أطلق يد الاحتلال وزاد من ارتكاباته وسيطلق يده أكثر ما لم يتمّ تصحيح هذا الخلل، ويخلص الى أن قدرة الردع حسمت لصالح الاحتلال، حيث كُسرت إرادة المقاومة وسوف يذهب الاحتلال الى المزيد من الضربات بعدما تيقن من ان المقاومة مردوعة بفعل خشية مبالغ بها من الحرب، وربما تكون إيران أيضا كذلك، وانتهى المقال بدرس استراتيجي يوجهه الكاتب الشاب للمقاومة التي شاخت في ميادين الحروب، “لم يقرأ حزب الله هذا الحشد على أنه أداة لاحتواء للتصعيد لا لتوسعته، وأن الحرب الإقليمية ما زالت بعيدة، ‏وأن كوابحها كثيرة، وأن المحدد الأميركي الاستراتيجي يقضي بأنّ الحرب الإقليمية خط أحمر؛ بل قرأه ‏على أنه تهديد وجودي له، فاختار تنفيذ نوعية من الضربات التي يمكن ابتلاعها، فجاء الردّ على شكل ‏عملية حسّنت وضعية الاحتلال الإقليمية تكتيكيًا؛ وعزّزت جزئيًا من قدرة نتنياهو وموقفه التفاوضي”.
– حسناً، لن نقول رحم الله امرئ عرف حده فوقف عنده، بل سنناقش الأفكار كما لو أن صاحبها هو الجنرال الفيتنامي فو نغوين جياب يوجهها لتلاميذه الذين يستعدّون لإشعال حرب تحرير ومقاومة دون خبرة سابقة، والأمر رغم إطالة السردية يتلخص بنقطتين، الأولى هل زادت قدرة الردع لدى الكيان بعد رد المقاومة أم تراجعت؟ وهل تحسّن موقع المقاومة التفاوضي في غزة بعد الرد أم أصبح أضعف؟ وقبل ذلك هل المقاومة في لبنان تتوهم مخاطر حرب وتتراجع بسبب خوف مبالغ به، فتصبح مردوعة؟ وما هو مفهوم الردع أصلاً، وكيف يبنى؟ وهل هي تقيم حسابا للحشود الأميركية وتخشاها، بمعزل عن نظرية افتراضية بلا معنى وردت لدى الكاتب، عن دور الحشود في احتواء التصعيد لا لتوسعته، وعن الحرب الإقليمية خط أحمر وفق المحدد الأميركي الاستراتيجي؟؟؟
– للتذكير، في الخطاب الأول بعد طوفان الأقصى الذي استنفر الأقلام والأصوات الشبيهة في الاحتجاج بذريعة خيبة الأمل، قال الأمين العام لحزب الله وهو يرسم استراتيجية الربح بالنقاط، موجهاً كلامه للرئيس الأميركي، “إن تهديداتكم هذه لا تخيفنا ولا تعنينا، أما بوارجكم هذه فقد أعددنا لها عدتها”، و”نحن نعرفكم وأنتم تعرفوننا منذ العام 1982”. وبالتأكيد ليس لمقاومة عربية تاريخ شبيه بتاريخ المقاومة اللبنانية مع الردع المبكر للأميركيين كي تتلقى دروساً حول كيفية فهمهم، ومعنى ردعهم، وحدود قدرتهم على استخدام القوة، وضوابط الاحتواء والتهديد والتصعيد والمحدد الاستراتيجي والتكتيكي. والأكيد أن قرار المقاومة بفتح جبهة الجنوب المستمرة منذ أحد عشر شهراً ببركة دماء مئات الشهداء من القادة والمقاومين وصمود بيئة شعبية لا تبخل بالغالي والنفيس لأجل فلسطين، كان تحدياً استراتيجياً لحضور الحشود الأميركية منذ يوم الطوفان، حتى بلغ الأميركي اليقين بأن جبهة الإسناد اللبنانية لن تقفل الا بتلبية شروط المقاومة في غزة، وصار يكرّر ذلك كأحد الثوابت، وقد جاء لمنعه أصلاً.
– لا بد من تعريف مفهوم الردع هنا، باعتباره أصلاً إعلان نية عدم الذهاب للحرب، من طرفي النزال، ورفع لمنسوب استخدام القوة الى حافة إمساك زمام المبادرة تحت سقف عدم دخول “المنطقة المحرّمة” التي تستدرج الحرب. وهنا يظهر وجود صمامات مناورة وخطر في آن، أبرزها احتمالات ترافق العمل الميدانيّ وحساباتها، باحتمال أن يكون ما حسبه طرف بأنه لا يستدرج حرباً يصيب عند الطرف الآخر العكس، أو أن يتضمن العمل الميداني تداعيات غير محسوبة لا يمكن ابتلاعها من الطرف الآخر بأقل من الذهاب للحرب، لذلك تعتبر عملية رسم معادلات الردع لعباً على حافة الهاوية، باعتبارها مشروطة بالقدرة على تحمل تبعات الذهاب إلى الحرب، فلا يجرؤ على خوض غمار معارك تحسين سقوف الردع إلا من جهز نفسه لمخاطر الذهاب الى الحرب. وهذا هو حال المقاومة عشية قرار الرد، كما كان حال إيران عشية رد 14 نيسان والوعد الصادق.
– الحكم على وضعية الردع بين المقاومة والاحتلال بعد الرد، لها أداة قياس، وليست أمراً يُجاب عنه بالتنجيم او الافتراض، او بالاحتكام للرغبات او المخاوف وهذه أدوات سيئة للقياس في السياسة، وأداة القياس هي بالعودة الى النسبة والتناسب مع خطاب الكيان خلال أحد عشر شهراً يحددها، حضور او غياب او تراجع خطاب التهديد بالحرب، وهو ما لم يلحظه الكاتب أبداً. والفرصة الذهبية التي ضاعت ليست على المقاومة لتعديل موازين قد عدلتها فعلاً ولكن لا تشعرون، بل الفرصة الذهبية التي ضاعت، كما يقول خبراء الكيان انفسهم، هي على شن الحرب التي طالما هدد بها قادة الكيان وقالوا إنّهم يريدونها، واذا بهم ينطقون جهارا بأنهم لا يريدونها، بل يبتلعون مئات الخطابات التي كانت تحدّد مضمونها بعمل تدميري للبنان يعيده إلى العصر الحجري وعمل بري في الجنوب يعيد حزب الله الى ما وراء الليطاني، وقد منحت المقاومة للكيان سبباً كافياً ليفعل ذلك، هو إصابة الخط الأحمر الكبير المتمثل باختراق أجواء تل أبيب بواسطة عشرات المسيّرات واستهداف قدس أقداس أمنه التي تمثلها الوحدة 8200، والتراجع عن خطاب الحرب، كما نطق به وزير الحرب عن انه ذهب الى المستقبل البعيد، كثمرة مباشرة للرد، يعني أن مفعول الرد على ميزان الردع كان كبيراً وكبيراً جداً ولصالح المقاومة حكماً، والاختبار بسيط وهو قادم حكماً، فقد نشأت منذ يوم 25 آب معادلة الضاحية مقابل تل أبيب وصارت جزءاً من قواعد الاشتباك الجديدة التي تبنيها المقاومة بتراكم هادئ لكن ثابت وشجاع، مثل معادلة الجولان مقابل البقاع، ولن يجرؤ الاحتلال على انتهاك أجواء الضاحية مجدداً، لأن المقاومة باتت ملتزمة بأن تل أبيب مقابل الضاحية، والأيام بيننا ما إذا كان رد المقاومة سيجعل الاحتلال أشد جرأة على الاستهداف، أم أشد حذراً من اللعب بالنار؟
– في موازين التفاوض، السؤال البديهي عن تشخيص دور جبهة الإسناد، هو كيف تسهم هذه الجبهة في تعزيز موقف المقاومة في غزة تفاوضياً، والجواب هو أن المقاومة في لبنان تراكم كل يوم حجم الأزمات التي تتسبب بها للكيان من خلال تصعيد وتطوير الأداء في جبهة جنوب لبنان، سواء على مستوى إرباك جيش الاحتلال واستنزافه، وضرب آلياته وبناه اللوجستية والتجسسية وتكبيده الخسائر البشرية والمادية التي لا تُحتمل، أو من خلال مراكمة أعداد المهجّرين الذين يعجز الاحتلال عن ضمان إعادتهم، او من خلال المترتبات الاقتصادية على جبهة شمال فلسطين المحتلة، وفيما معادلة المقاومة تقول إن لا طريق للتخلص من هذه الأزمات عبر الضغط لفك الارتباط بين جبهتي لبنان وغزة، والطريق الوحيد هو الذهاب الى اتفاق مع المقاومة في غزة، كانت حسابات الكيان أن الحرب والتلويح بالحرب والاستقواء بالحشود الأميركية يشكل بديلاً واقعياً عن الذهاب إلى القبول بتفاوض من موقع البحث عن التوصل لاتفاق مع المقاومة، وعندما يصرف الاحتلال النظر عن خيار الحرب والتهديد بالحرب وتسقط أوهامه على هذا الرهان فهو حكماً أمام ممر إلزامي للتخلص من الأزمات الخانقة المتفاقمة في جبهة الشمال، اسمه التفاوض طلباً لاتفاق حول غزة طرفه المقابل هو المقاومة.
– تبقى نقطة لا بد من جلائها لمرة أخيرة، وهي نظرية استهداف المدن، وهي نظرية طفولية مراهقة، يفهم أن تستهوي الناس عاطفياً أمام مشاهد القتل في غزة، ونزيف الدماء المرعب هناك، لكن تكرارها ممن يريدون مخاطبة المقاومة بلغة الأستذة، أمر مثير للسخرية، والمقاومة تدرك أن المدن مقابل المدن، لكنها لن تجنب غزة المزيد من التوحش، ولذلك هي تحمي المدن بتفادي استهداف المدن، ولكنها مستعدّة لتدمير المدن على رؤوس ساكنيها إذا استهدفت المدن، وهي تدرك أيضاً أن هذه المعادلة وحدها تحفظ للمقاومة وفلسطين ما تراكم على مستوى الرأي العام العالمي من تأييد، معرض لخطر التبدّل والانقلاب جذرياً إذا بدا أن وجهة الحرب تتغير نحو تهديد العمق السكاني في الكيان، لتخرج عندها صيحات الحديث عن هولوكوست جديدة وحرب إبادة معاكسة، ولأن بعض الحديث جرى عن الرد الإيراني وربما اليمني، فكل الردود سوف تعمل وفقاً لهذه القاعدة، الضرب تحت الحزام ولكن ليس استهداف المدن، لدفع الكيان الى اليأس من الرهان على القدرة على مواصلة الحرب والتسليم بأن التخلص من كل ما تراكم من أزمات بفعل الحرب يتوقف على الذهاب للتفاوض طلباً لاتفاق مع المقاومة في غزة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *