مقالات

طهران تتمسك بترابط “محور المقاومة”

قد يصح القول إثر مواجهة الساعتين بين حزب الله وإسرائيل فجر الأحد الماضي أنها “ختمت على زغل”. وبالتالي فإن العودة الى قواعد الإشتباك البارد المتبعة لا تعني بالضرورة أن الحماوة لن تعود، لا بل على العكس ثمة أسباب عدة تعزز الإنطباع بأن رفع سقف المواجهات قد لا يتأخر كثيرا، ولو أنه سيبقى تحت مستوى الحرب الشاملة.

وهذا الإستنتاج يمكن استخلاصه من مواقف الأطراف المعنية وفي طليعتها رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية الجنرال براون الذي صرح في نهاية جولته المفاجئة في المنطقة والتي تزامنت مع الضربة الإنتقامية لحزب الله أن المخاطر على “المدى القريب” إنحسرت الى حد ما. لكنه اعتبرأن الرد الإيراني لا يزال يشكل خطرا كبيرا. وفي المقابل تبدو إيران مصممة على توجيه ضربتها ولو بنحو مدروس أيضا كما فعل حزب الله.

وفي إشارة إضافية الى الرد الإيراني “المدروس” تفضيل طهران الردود المنفصلة وبتواريخ متباعدة وليس ردا مشتركا مع حزب الله والحوثيين وربما العراقيين، ليقينها أن ذلك سيعني الذهاب فورا الى الحرب، وهو ما سيعني تحقيق هدف نتنياهو بجر واشنطن الى الدخول مباشرة في الحرب. ولذلك ترفض طهران توسيع دائرة الحرب ولو أنها تقول أنها لا تخافها وهي التي تمتاز بمساحة جغرافية شاسعة ما يمنحها امتيازا قويا في مقابل انتشار للقواعد الأميركية في بلدان عدة مثل قطر والبحرين والإمارات والسعودية وأذربيجان والعراق وسوريا. ووفق التقييم الإيراني فمن الطبيعي أن تتضمن الحسابات الأميركية خشية من استهداف هذه القواعد.

ومنذ فترة ليست ببعيدة وتحديدا عندما ضربت إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق استدعى وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان يومها السفير السويسري في طهران والذي يرعى المصالح الأميركية وأبلغ اليه أن إيران تتهم واشنطن بالإشتراك في الضربة التي حصلت، وسنتصرف على هذا الأساس. لكن الجواب الأميركي جاء لاحقا بأن لا علاقة لواشنطن بما حصل “وإذا ضربتمونا سنضربكم”. وكان الرد الإيراني أكثر تعقلا هذه المرة، وعلى أساس السعي لتخفيف التوتر في المنطقة، وأن “مصلحتنا ومصلحتكم أن لا يحصل تصعيد في المنطقة”.

وما تزال نظرة طهران العريضة للأوضاع في المنطقة كما هي. كما أنها تعتقد أن لبنان لن يتأثر بنتائج الرد الإيراني المتوقع.

لكن ثمة جزء إضافي لهذه القراءة لا يبعث على الإطمئنان.

ذلك أن فصل الردود الإنتقامية على إسرائيل من جهة إيران وحزب الله والحوثيين لا يعني أبدا بالنسبة الى طهران فصل الترابط الموجود بين لبنان و”محور المقاومة” وخصوصا لجهة الحلول. فالموقع الجغرافي للبنان، وخصوصا لجنوبه، يحول دون فك هذا الترابط القائم. وهو ما يعني بالنسبة الى إسرائيل والولايات المتحدة أيضا أن أحد أبرز الأهداف المطلوبة للحرب المضبوطة في لبنان لم يتحقق بعد، ما ينبىء بجولات أخرى حامية في المرحلة المقبلة.

صحيح أن إشارات إيجابية عدة صدرت عن طهران في اتجاه واشنطن، لكنها لم تصل الى مستوى القبول بتعديل خريطة النفوذ في المنطقة، والمقصود به في جنوب لبنان القبول بإزالة خط التماس الإيراني ـ الإسرائيلي من جنوب لبنان، أو على الأقل الجزء الأكبر المتفجر منه.

فخلال الساعات الماضية وعلى رغم من الجو المحتقن نقل عن مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي قوله للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بإمكانية العودة الى المفاوضات النووية، “فلا ضرر في تعامل إيران مع عدوها”. وتلا ذلك عودة محمد جواد ظريف(وهو أحد أبرز دعاة الحوار مع واشنطن) عن استقالته كنائب للرئيس. كذلك ما نقل عن جنرال رفيع في سلاح البحرية الأميركية من أن قيادته العليا رفضت إقتراحا بضربات أكثر عدوانية على الحوثيين.

لكن اللافت كان قول خامنئي أيضا أن القدرة على التأثير على دول العالم والمنطقة ليست بالأمر اليسير، بل هي أمر مهم جدا، “وهذه واحدة من الفرص لنا”. الواضح أن خامنئي يؤكد عدم قبوله بتعديل قواعد اللعبة القائمة. وانطلاقه في اتجاه إعادة تحريك ملف التفاوض قد يكون من زاوية قراءة المشهد الإنتخابي الأميركي، إضافة الى الوضع الإقتصادي الإيراني والذي استنزف كثيرا من الأموال بسبب الحرب القائمة على ساحات عدة في المنطقة. لكن السؤال هنا: هل تستطيع الإدارة الأميركية الديموقراطية الشروع في إعادة إحياء الإتفاق النووي وإزالة العقوبات المفروضة على إيران في خضم حملات إنتخابية تشهد مزايدات وحماوة شعبية كبيرة؟

وليست طهران وحدها من يراهن على الإنتخابات الرئاسية الاميركية، فنتنياهو أيضا يبني حساباته على هذا الأساس. فهو يقاوم آخر الضغوط الهائلة التي تقوم بها إدارة بايدن لتحقيق وقف إطلاق النار في غزة. فعدا عن أنه يطمح لتحقيق مزيد من الأهداف الميدانية فهو لن يذهب الى منح الحزب الديموقراطي ورقة مجانية. وبالتالي فهو يتشدد في انتظار نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية. وهو قد يكون شعر بازدياد ثقته بنفسه وبالتالي قدرته على التملص. فالثوابت العسكرية الأميركية تجاه أمن إسرائيل جعلته يشعر بالحماية والحصانة، والظروف السياسية الداخلية لا تشكل عامل ضغط جدي عليه وعلى حكومته، لا بل على العكس فإن الإستطلاعات المتلاحقة تؤشر لتحسن مضطرد لشعبيته وتحسن ولو محدود في عدد مقاعد حزب الليكود. وللواقعية فإن الضغوط على نتنياهو أثمرت عكسيا ورسمت له صورة القائد الذي لا يخضع لا للخارج ولا للداخل أيضا. وهو ما يعني أن الوقت ما يزال مفتوحا أمام نتنياهو أقله لأكثر من شهرين لكي يجول حربيا كما يريد. ومن هنا يمكن قراءة ذهابه في اتجاه حملة عسكرية في الضفة الغربية كونها الساحة الأكثر حساسية والمثيرة للجدل بسبب معارضة واشنطن لها، ما يحتم عليه الإسراع فيها. أما الجبهة اللبنانية فتبدو ظروفها أقل تعقيدا بالنسبة له ما يجعله قادرا على استهلاك بعض الوقت قبل الإستدارة الكاملة في اتجاهها. ذلك أن واشنطن تريد فك الإشتباك الإيراني ـ الإسرائيلي عبر جنوب لبنان. والشارع الإسرائيلي يميل بغالبيته في اتجاه حسم الوضع هناك.

فوفق آخر الإستطلاعات فإن 54% من الإسرائيليين كانوا يريدون لو كانت “الضربة الإستباقية” أوسع نطاقا، في مقابل 25% فقط يرفضون ذلك.

وفي الإستطلاع نفسه أيد 49% قبول صفقة تنهي الحرب في غزة وتتضمن إنسحابا من معبر فيلادلفيا، في مقابل رفض 32% ذلك. وهو ما يعني جنوح الشارع الإسرائيلي الى ضربة في لبنان ما يجعل نتنياهو مندفعا في هذا الإتجاه حتى لو تأخر وقتا وجيزا سيخصصه للضفة الغربية.

يوم الإثنين الماضي عاد وظهر عدد من مسؤولي حزب الله في مكاتبهم في الضاحية الجنوبية بعد غياب عن السمع والنظر منذ ضربة حارة حريك. وجاء ذلك بقرار من القيادة تحدث عنه صراحة نصرالله في كلمته غروب يوم الأحد الماضي. ومن البديهي الإستنتاج بأن فك حالة الحذر في الضاحية مرتبط بتفاهمات ما جرت في الكواليس الأميركية ـ الإيرانية، وأنتجت ردا مدروسا إنتقاميا لحزب الله.

لكن ذلك لا يضمن عودة الإستقرار كاملا الى الساحة اللبنانية لا بل على العكس. فالحسابات تؤشر الى إمكانية استعادة الاستهدافات المتبادلة وبحماوة مرتفعة وفي وقت قد لا يكون قريبا ولا بعيدا في الوقت نفسه.

في العام 2018 وبعد وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا وإثر نتائج الإنتخابات النيابية صدرت أصوات عدة من طهران تحتفل بوصول إيران الى شاطىء البحر المتوسط. وهو ما يعني إيذانا بوجوب التعاطي الدولي مع لبنان وفق معادلة إقليمية جديدة. ولاحقا انفجرت ثورة 17 تشرين بوجه السلطة القائمة، وسجل خروج سعد الحريري ليس من السلطة فقط بل من كل الحياة السياسية اللبنانية في سابقة تاريخية وبدفع من السعودية، وهو الذي كان يشكل الركيزة الثالثة لصيغة الحكم الجديدة الى جانب “الثنائي الشيعي” و”التيار الوطني الحر” والتي قامت منذ وصول ميشال عون الى الرئاسة. وبالتالي فإن الذروة التي شهدها العام 2018 باشرت تراجعها مع انطلاق ثورة تشرين. وبالتالي يسهل الإستنتاج بأن إقفال الساحل الشرقي للبحر المتوسط أمام إيران هو قرار أكبر من قدرة الساحة اللبنانية وهو ما زال قائما. وقد ذاق اللبنانيون مرارته إقتصاديا واجتماعيا وسياسيا منذ العام 2019، ليتطور ويصبح عسكريا مع اندلاع حرب غزة.

لأجل كل ذلك سيبقى الباب مفتوحا أمام النزاع العسكري الدائر جنوبا ويطاول كل الساحة اللبنانية، في انتظار القبول بمعادلة ميدانية جديدة.

جوني منير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *