انسحابات إسرائيلية «مؤقتة» في الضفة: جنين تلملم آثار العدوان
رام الله | انسحبت قوات الاحتلال، صباح أمس، من مدينة جنين ومخيمها، بعد عملية عسكرية دامت 10 أيام، مُخلِّفةً وراءها «زلزالاً» طال المرافق والبنى التحتية كافة، ومعيدةً انتشار آلياتها وقواتها في محيط المدينة وعلى الحواجز التي تحاصرها. على أن هذا الانسحاب يبدو مضلّلاً؛ إذ لا يحتاج جيش العدو سوى إلى دقيقة واحدة حتى يُعيد اقتحام جنين ومخيمها مرة أخرى، وهو الأمر المتوقع حدوثه في أيّ لحظة، والذي ينطبق أيضاً على محافظة طولكرم ومخيميها اللذين تعرضا لعدوان مماثل. ومنذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في شمال الضفة الغربية صباح الأربعاء الماضي، استُشهد 39 فلسطينياً وأصيب 150 آخرون، ما يرفع الحصيلة إلى 691 شهيداً ونحو 5700 جريح منذ 7 أكتوبر، من بينهم 21 شهيداً من جنين، و8 من طوباس، و7 من طولكرم، و3 من الخليل، كما أن من ضمنهم 8 أطفال ومسنَّين.وأعلن جيش الاحتلال أن عملية «مخيمات الصيف» لم تنتهِ بعد، وبالتالي يمكن استئنافها في أي لحظة، وهو ما جرى بالفعل في طولكرم وطوباس، حيث كان الجيش ينسحب لساعات ثم يشن اقتحاماً مباغتاً، وما قد يتكرر في جنين أيضاً. إذ نقلت «القناة الـ12» عن مسؤولين أمنيين قولهم «(إننا) سنعود قريباً إلى جنين وبقية المناطق. العملية في شمال الضفة الغربية وفي المنطقة بأكملها لن تتوقف»، بينما ذكرت قناة «كان» أن وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، طالب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بأن يدرج في أهداف الحرب هزيمة «حماس» والمنظمات الأخرى في الضفة، ناقلة عنه قوله: «سأطلب اتخاذ القرار في الجلسة الوزارية المقبلة، وهو القرار الذي يجب التعبير عنه بشكل فوري».
واستفاق المواطنون في جنين على خراب غير مسبوق حلّ بمدينتهم، إذ بدا أنه ليس ثمة شوارع ولا طرقات ولا شبكات مياه وكهرباء وصرف صحي، فيما مئات المحال التجارية والمنازل شبه مدمّرة. ويقول محمد جرار من جنين، لـ«الأخبار»، إن ما عاشته المدينة «عدوان هو الأوسع منذ 22 عاماً، تعمّد الاحتلال فيه تدمير كل شيء. معالم المدينة وشوارعها تغيرت بالكامل جراء التجريف والتخريب، لم تعد هناك بنية تحتية، ولا خدمات. لكن ذلك لن يضعفنا، سنبقى صامدين وسنعيد بناء ما دمره الاحتلال. منذ الصباح، الأهالي خرجوا إلى الشوارع والطرقات وهم مصرون على الصمود وإصلاح مدينتهم». وقبيل ساعات من انسحابها، تعمّدت قوات الاحتلال تدمير خطوط إمداد الكهرباء في عدة أحياء من جنين، توازياً مع تكسيرها آليات شركة الكهرباء وإخراجها من الخدمة، بينما أظهرت مشاهد عدة نشرها ناشطون ومواطنون ومنصات تجريف غالبية الشوارع في المدينة.
جيش الاحتلال تعمّد، في عدوانه على شمال الضفة، اتّباع الإستراتيجية نفسها المستخدمة في غزة
وفور الإعلان عن انسحاب جيش الاحتلال، بدأت الطواقم والمؤسسات المحلية العمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه، عبر طواقم البلدية والمحافظة والدفاع المدني وبقية المؤسسات، فيما انطلقت شاحنات المساعدات والمواد الغذائية من قرى وبلدات جنين والمدن القريبة، لإغاثة أهالي المدينة والمخيم. ويقول رئيس بلدية جنين، نضال عبيدي، لـ«الأخبار»، إن «الوضع كارثي هناك، ولذلك بدأت عجلة الإعمار والإصلاح بالدوران سريعاً، والكل يعمل عبر عدد من الجرافات والشاحنات، التي تنقل المواد في المخيم والحارة الشرقية ووسط المدينة». ويوضح عبيدي أن «الدمار والخراب طالا أكثر من 70% من الشوارع، فيما أكثر من 25 كلم من الشوارع والبنية التحتية الخاصة بالمياه والصرف الصحي جرى تدميرها»، مبيّناً أن «الخطة الآن هي مباشرة إصلاح ما يمكن إصلاحه، وخاصة أننا على أبواب العام الدراسي، واقتراب فصل الشتاء، ولذلك سيكون هناك عمل دؤوب لإنجاز الأعمال بأقصى سرعة ممكنة، كما أن الكل يعمل من القطاع الخاص أو الحكومي أو الأهلي». وإذ يشير إلى أنه ليست ثمة إحصائية حتى الآن حول حجم المنازل المدمرة سواء بشكل جزئي أو كلي، فهو يضيف أن «هناك الكثير من المحال التجارية التي دُمّرت، ولم يتبقّ شيء لم يُستهدف»، متابعاً أن «الأهالي الذين طردوا من منازلهم من قبل قوات الاحتلال سيعودون إليها، لكن من دُمرت منازلهم سيتم العمل على إصلاحها». وعن احتمال تجدّد العملية العسكرية، يلفت إلى أن «العملية لم تنتهِ، ونحن نعلم ذلك، ولكن هذا الأمر لا يعني أن ننتظر ولا نفعل شيئاً».
وفي مدينة طولكرم، لا يبدو المشهد مختلفاً؛ إذ بدأت الطواقم الفنية هناك العمل على إزالة آثار العدوان على مخيّمي طولكرم ونور شمس والمدينة، فور انسحاب قوات الاحتلال. وأفادت اللجنة الشعبية في مخيم طولكرم بأن الاحتلال دمّر 100 منزل بشكل كامل في اجتياحه الأخير، وحوّل 200 منزل إلى غير صالحة للسكن، كما دمّر نحو 300 محل تجاري، وشبكة كهرباء واتصالات بطول 2 كلم مربع، ما جعل المخيم منطقة منكوبة.
والواقع أن جيش الاحتلال تعمّد، في عدوانه على شمال الضفة، اتّباع الإستراتيجية نفسها المستخدمة في غزة، عبر تفعيل أدوات الدمار والتخريب إلى أقصى الحدود، وجعل حياة المواطنين لا تُطاق، وخلق بيئة طاردة للسكان، وتأليب الحاضنة الشعبية على المقاومين. كما يشي انسحاب قوات العدو إلى المعسكرات القريبة، وتلويحها بمعاودة العدوان في أي وقت قريب، بأنها تستلهم النموذج عينه الذي تحاول تطبيقه في غزة، عبر تحويل محورَي «نتساريم» و«فيلادلفيا» إلى معسكرات ثابتة للجيش، يمكن عبرها شن عمليات في أي منطقة وفي أي وقت. وإذا كانت جنين وطولكرم على وجه الخصوص ستحظيان بفرصة لالتقاط الأنفاس قد لا تدوم سوى ساعات، فإن تصعيد العدوان يبدو أنه سيكون عنوان المرحلة المقبلة، حيث لن يقتصر على شمال الضفة فقط، وفقاً لما يوحي به التحريض المتواصل والمتساوق مع الأهداف والمخططات الإسرائيلية، والتي عبّر عنها بوضوح تصنيف جيش الاحتلال، قبل أيام، الضفة كـ«ساحة قتال رئيسية ثانية» بعد قطاع غزة.
احمد العبد