استفاقة الجبهات النائمة: طوق النار يكتمل حول «الذئب الجريح»
سيكون صعباً على إسرائيل أن تخرج من معركة «طوفان الأقصى»، في غزة وعلى الجبهات الأخرى، من دون ندوب عميقة ستعيش معها ما عاشت. الطوق حولها اكتمل، تماماً كما كانت الحال خلال الحروب العربية – الإسرائيلية، حتى عام 1973، آخر الحروب قبل توقيع عدد من الدول العربية اتفاقات سلام مع العدو. وهي اتفاقات ثبت أنها لم ولن توفر أمناً وهيمنة لإسرائيل، فيما الدول التي انخرطت فيها تمثل حالياً جبهات لا تقل خطورة عن الجبهات المفتوحة من باقي دول الطوق المباشر، ومن دول العمق كاليمن والعراق التي كانت دوماً معادية لإسرائيل.ما يحصل على حدود الأردن، مثلاً، من عمليات إطلاق نار وتهريب سلاح إلى الضفة الغربية التي تشهد بدورها صراعاً متصاعداً، يعني عملياً أن الجبهة الأردنية مفتوحة بشكل وبآخر، ولا سيما أن تلك العمليات صارت أكثر تواتراً منذ 7 أكتوبر، وإن كانت لا تُعلن إلا إذا كانت صارخة كما حدث حين قتل الجندي الأردني السابق، ماهر الجازي، ثلاثة عناصر أمن إسرائيليين في إطلاق النار عليهم هذا الشهر. أضف إلى ذلك أن الغليان في الشارع الأردني، والذي عبر عنه توزيع الحلوى بعد تلك العملية، يشير إلى أن هذه الجبهة ستظل مفتوحة من تحت أنف النظام، هذا إن لم تتطوّر إلى حد يصيبه هو نفسه بعطب. فالواضح أن نظرية حماية الأردن التي قام عليها «أيلول الأسود» عام 1970 سقطت، خاصة أن عودة إسرائيل إلى سياسة التهجير في الضفة الغربية وقطاع غزة، تشكل تهديداً مصيرياً للأردن يرقى إلى التشكيك في بقائه كبلد، فضلاً عن نظام الحكم.
على الجبهة المصرية لا يقل الوضع اضطراباً، والترابط بين ما يجري في القطاع وما يمكن أن يفتح عليه من احتمالات على مصر، أكبر وأكثر خطورة وإلحاحاً بكثير مما يجري في الضفة. إذ إن مشروع التهجير لا يبدو أنه بات خارج الحسابات وفقاً لما يدل عليه استمرار المجازر والتدمير والتجويع، فيما مصر هي الممر الوحيد لتهريب السلاح إلى القطاع، الذي ظل نافذة تنفتح عبرها القاهرة على الصراع مع العدو حتى بعد توقيع معاهدة السلام. وبغض النظر عما سينتهي إليه الأمر في غزة، فإنه سيظل يورّط مصر، ويثقل على النظام المصري الذي يجد مشكلة في التوفيق بين طموحات إسرائيل مرتفعة السقف، وبين ما يقدر عليه النظام بوصفه نظاماً عسكرياً قمعياً يعيش على حقن المساعدات الخليجية ويستعصي عليه حل مشكلات شعبه الاقتصادية، فضلاً عن أن يلبي الحد الأدنى من طموحاته الوطنية والقومية. وسيصبح وضع مصر أكثر تعقيداً فيما لو جرى تهجير فلسطينيي القطاع إلى سيناء، حيث سيخلق ذلك مشكلة لاجئين فلسطينيين جديدة وربما هجمات عابرة للحدود.
الأنظمة العربية صارت تخشى تأثير خيار المقاومة على استقرارها
وحتى جبهة الجولان التي ظلّت هادئة منذ حرب 1973 حتى اندلاع الأزمة السورية عام 2011، ولو تحت سلطة نظام ظل معادياً لإسرائيل، تحرّكت بعد 7 أكتوبر من الجوار اللبناني والسوري، لتُضاف إلى الجبهات المفتوحة، بشكل لم تكنه في أي وقت من الأوقات، منذ إقامة دولة إسرائيل عام 1948، وهذه عودة كبيرة إلى الوراء بالنسبة إلى العدو. الفارق اليوم، أن من كان يتحكم في سير الجبهات سابقاً هي الأنظمة التي كانت ولا تزال لديها سياسات مزدوجة: واحدة موجهة إلى الشعوب تدرّجت من تبني شعارات هذه الأخيرة في العلن، والعمل عكسها في السر، إلى محاولة إقناع تلك الشعوب بما يسمى الواقعية والقدر الذي يقول بعدم إمكانية هزيمة إسرائيل وبأن الاستمرار في الحرب معها إلى ما نهاية، يعطل التنمية ويستنزف الموارد بلا طائل. وتضاف إلى كل الجبهات المفتوحة المذكورة، إيران التي كانت قبل المعاهدات في موقع الصديق لإسرائيل، لتتحوّل إلى دولة توظّف إمكانات هائلة لهدف واحد هو إزالة إسرائيل من الوجود، وكانت لها مساهمة حاسمة في إحكام الطوق الناري على دولة العدو.
وبالنتيجة، إسرائيل التي كانت تحسم حروبها مع أنظمة دول الطوق، بما فيها تلك المؤمنة بالعداء لها، في أيام أو أسابيع على الأكثر، تتصرف اليوم كالذئب الجريح الذي يهاجم في كل الاتجاهات بلا نتيجة، فيما الناس في كل العالم العربي والإسلامي، يرىون ذلك يحدث أمامهم في بثّ مباشر على مدار الساعة. والتجارب التي كان لا بد أن تحصل قبل أن يصير هذا الواقع ممكناً، تفيد بأن أحداً لا يستطيع فعل الكثير لمساعدة العدو. ومن هذه التجارب مجيء الأميركيين بجيوشهم إلى المنطقة وفشلهم في إقامة ترتيبات تضمن التحكم فيها عبر منظومة أمنية واقتصادية ركيزتها إسرائيل. وما تقوله أميركا لأصحاب الرؤوس الحامية في إسرائيل اليوم، لا يقتصر فقط على أن توسيع الحرب إلى الإقليم يضر بالمصالح الأميركية المصممة لخدمة إسرائيل بصفتها موقعاً حليفاً متقدّماً، وإنما تقول لها أيضاً إنها لا تستطيع أن تساعدها كثيراً إن هي تورّطت في حرب إقليمية. فأميركا نفسها سبق أن أحضرت حاملات الطائرات والبوارج إلى بلدان الشرق الأوسط، وفوقها عشرات ومئات آلاف الجنود، ثم اضطرت إلى المغادرة مع كثير من التوابيت.
إزاء ذلك، وفيما الناس يراهنون اليوم على خيار المقاومة أكثر من أي وقت مضى، فإن خوف الأنظمة تضاعف من تداعيات تمدّد هذا الخيار على استقرارها. ولعل أوضح دليل على ما تقدم، هو أداء محمد بن سلمان، الذي كان يستعد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل أسابيع قليلة من «طوفان الأقصى»، فإذا به يقول الآن إن مملكته لن تقيم علاقات مع إسرائيل، إلا بعد إقامة دولة فلسطينية.
حسين ابراهيم