مقالات

ماذا يعني التفاوض على حافة الهاوية؟

ناصر قنديل
– ليس صحيحاً الاعتقاد أن مسارات التفاوض المفتوحة حول غزة والآن حول لبنان هي مجرد ألاعيب. فهذا الاستنتاج عن الخداع والمكر والتلاعب يكون صحيحاً عندما يكون لدى مَن يشنّ الحرب خريطة طريق لاستثمار العمل العسكري في تحقيق الأهداف، أما عندما يكون العمل العسكري مستمراً فقط بسبب العجز عن قبول شروط الطرف الآخر لإنهاء الحرب، فيكون صاحب الحرب في مأزق. وهذا هو حال الكيان منذ شهور في غزة، وهو حاله اليوم في لبنان، حيث أنه استنفد وظائف العمل العسكري، ويقف عاجزاً عن امتلاك خريطة طريق لبلوغ الأهداف عن طريق القوة، وأي مراقب يستطيع أن يستنتج بالمعاينة البسيطة أن الكيان فشل ويفشل وهو فاشل في استعادة أسراه بالقوة وفي القضاء على المقاومة في غزة بالقوة، لذلك التفاوض يشكل مساراً جدياً وحتمياً لكن الضغط العسكري يهدف لتغيير شروط التفاوض وليس لأن هناك أفقاً لتحقيق الأهداف بالقوة. والكلام عن أن التفاوض حول غزة تلاعب وخداع ومكر يمنح الكيان ميزات ليست له وحرب نفسيّة لصالحه بوعي أو من دون وعي، لأنه مأزوم، يفاوض ولا يستطيع الوصول إلى اتفاق، يحارب ولا يستطيع تحقيق الأهداف، فهو عالق وقد هرب إلى جبهة لبنان لأنه عالق في جبهة غزة ويعتقد أن حجم ما منحته إياه المعونة الأميركية الاستخبارية من حزمة قاتلة كافٍ لفرض معادلة جديدة على حزب الله تتيح التفاوض بشروط مختلفة على جبهتي لبنان وغزة معاً والخروج من المأزق الذي علق فيه.
– الأميركي صاحب المشروع وصاحب الكيان، لا يطرح مساراً تفاوضياً للتسلية، ولا للتمويه، وعندما كان الخيار العسكريّ في غزة قادراً على الإنجاز او مأمولاً منه الإنجاز كان الأميركي وعلى لسان كل مسؤوليه بمن فيهم الرئيس جو بايدن يقول لكل مَن يطلب وقف النار، “إن المستفيد الوحيد من وقف إطلاق النار هي حركة حماس”. يجب أن نتذكّر ذلك ونتذكّر خلال الأيام الأولى لضربات الاحتلال في لبنان لم يكن هناك مشروع مسار تفاوضي حول لبنان، بل أمل بتحقيق التحولات الميدانية لتتسوحى منها طبيعة المسار التفاوضي، ولذلك من يتمعّن في مبادرة الرئيس الأميركي حول غزة سيكتشف أنها حاولت محاكاة بعض الشروط الرئيسية لحركة حماس، لأنها تعبّر عن مسار جدي، ينطلق من انسداد الأفق أمام الخيار العسكري واستنفاد قدرة جيش الاحتلال على تحقيق تقدم، فيتقدّم مسار التفاوض لإنقاذ الكيان وجيشه من الأسوأ، لكن واشنطن معنية بالتوازي أن لا يخرج الكيان من التفاوض مهزوماً لذلك لا تضغط عليه وتقيس معه موازين الربح والخسارة، وهي شريك بخيار التوجه إلى الشمال بناء على هذه القياسات، وهي مَن وفرت له أسباباً يُفترض أن تكون مضمونة للنجاح بتغيير قواعد الاشتباك على جبهة لبنان لفتح مسار التفاوض بشروط جديدة في غزة ولبنان، لكن ذلك لم يحدث، ونجح حزب الله في استيعاب الضربة واحتواء نتائجها واسترداد زمام المبادرة، وبدأ يوسّع دائرة النار ويزيد أعداد المهجرين، وجاء العرض التفاوضي منطلقاً من هذه الحقائق التي فرضها الميدان. وهذا معنى ما تضمّنه البيان الرئاسي الفرنسي الأميركي الذي وقعته مع الرئيسين دول عربية وأجنبية، من ربط للتفاوض بين مساري لبنان وغزة، وهذا مطلب المقاومة، وتفريقه بينهما في وقف النار المؤقت، وهذا ما ترفضه المقاومة.
– جاء الكيان الى حرب لبنان، لأنه عالق في حرب غزة، ويراهن ومن خلفه الأميركي على إنجازات مصممة بالحزمة الأميركية القاتلة، لكنه جاء أيضاً إلى حرب لبنان محكوماً أيضاً بحسابات تفضيل سياسيّة، تتصل بأن حرب لبنان أقل تأثيراً في الشارع الغربيّ من حرب غزة، وحرب لبنان أكثر أهمية في رسم توازنات المنطقة في عيون حكومات الغرب من حرب غزة، خصوصاً في ملفات بحجم مستقبل سورية ووزن إيران الإقليمي ومستقبل الاحتلال الأميركي في سورية والعراق، ولكن يبقى الأهم أن حرب غزة بعد بلوغها مراحل الاستنفاد والفشل تحوّلت كرة ثلج سلبية داخل الكيان، سواء كعنوان للانقسام السياسي أو تراجع ولاء الجيش لخيار الحرب أو مزاج الرأي العام، بينما حرب لبنان لا تزال مصدر وحدة سياسية وحماسة الجيش واندفاع الرأي العام وتأييده، وأي اختبار للمسار التفاوضي يجب أن يعبر من هذه الزاوية، وحدة الكيان السياسيّة وانقسامات مكوّناته، اتجاه الرأي العام تجاه الاستمرار في الحرب أم الدعوة لإيقافها، والواضح أن اللحظة الراهنة ليست لحظة إيقاف الحرب من الزاويتين، لكنها لحظة التفاوض على صفيح ساخن وصولاً إلى حافة الهاوية.
– هذا يعني أننا في قلب تفاوض جدي، وان الكيان أمام خيارات مواصلة الحرب لتعزيز وضعه التفاوضيّ بين ثلاثة خيارات صعبة، مواصلة الحملة بصيغتها الراهنة. وهذا يمنح حزب الله فرصة المضي قدماً في الإمساك بزمام المبادرة في الميدان وإظهار المزيد من النيران تشعل الشمال ومزيد من المهجّرين يغادرونه. والخيار الثاني هو عملية برية تُدقّ لها طبول الحرب وهي فرصة ذهبية تراها المقاومة وتنتظرها بفارغ الصبر. والخيار الثالث ما يُسمّى بالحرب الشاملة وهو إضافة للحرب البرية حرب المدن والبنى التحتية والدمار الشامل المتبادل، ولذلك يستبعدها الأميركي والإسرائيلي لأن فيها احتمالات الخروج عن السيطرة. وبانتظار ما يختاره الاحتلال تستعد المقاومة لتقديم أفضل ما لديها، وفي الحصيلة تملأ فراغات بيان التفاوض بما يكتبه الميدان، فهل تضاف فقرة وقف نار متزامن في غزة ولبنان، أم تشطب فقرة تفاوض متلازم على ملفي لبنان وغزة، بمسمّى القرار 1701 في لبنان والقرار 2735 في غزة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *