لبنان غزة ثانية و«خطة الجنرالات» تتكرَّر
من سخريات القدر أنّ شعار «وحدة الساحات» الذي رُفع طوال عام كامل، بهدف تسخير لبنان لمنع سقوط غزة، قد انقلبت نتائجه تماماً. فقد دُمّرت غزة وهُزمت وبدأ إفراغها تدريجاً من السكان، ولبنان «على الطريق» إلى حدّ بعيد. وفيما كان مفترضاً، وفق هذا
الشعار، أن تتكفّل كل ساحةٍ بدعم الساحة الأخرى، فإنّها في الواقع سقطت وأسقطتها.
شكّل مقتل يحيى السنوار محطة مفصلية في حرب غزة. فهو سمح لإسرائيل ببدء الحديث عن الانتصار، وتحضير غزة لواقع جيوسياسي جديد، لا مكان فيه لـ«حماس»، بعدما فقدت هيكليتها التنظيمية وقدراتها العسكرية وقواعدها المثبتة فوق الأرض وفي الأنفاق، وبعد إحكام الحصار على القطاع، وتنامي الهجرة، هرباً من الموت قتلاً أو جوعاً أو مرضاً.
المحصلة الأولية لحرب غزة، بعد عام على اندلاعها، هي الآتية: 43 ألف قتيل وأكثر من 100 ألف جريح ومعوَّق، وأعداد غير محدّدة من المفقودين، ونحو مليون نازح، ودمار كثير من الأحياء السكنية والمرافق والبنى التحتية. وفي النهاية، سيطر الإسرائيليون على غزة عسكرياً، ودمّروا غالبية الأنفاق التي تمتد إلى خارج القطاع، وتعتمدها «حماس» للتزوّد بالسلاح والذخائر والأموال والمؤن الأخرى.
وفي الترجمة السياسية، انتهت الحرب هناك باقتلاع شبه كامل لـ«حماس»، ما يفتح الباب لـ«ستاتيكو» سياسي جديد ركيزته قوى فلسطينية أخرى. وكان يمكن أن تُمنح السلطة الفلسطينية مسؤولية إدارة القطاع، لكن إسرائيل تفضّل عليها شخصيات محلية غزّية مستعدة للتعاون معها. وفي أي حال، لا يريد بنيامين نتنياهو إنهاء الحرب هناك، إلّا إذا نضجت الظروف لتنفيذ مخطط التدمير والتهجير ثم نشر المستوطنات، ما يبدل في الواقع الديموغرافي للقطاع.
ومن الواضح أنّ إسرائيل أمضت 11 شهراً في تحضير الأرض لهذا التغيير. وقد بدأت أخيراً تنفيذ ما يسمّى «خطة الجنرالات» المتقاعدين، وأبرزهم غيورا آيلاند، صاحب مشروع إعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط، وهي تقضي بإفراغ كل مناطق غزة من سكانها على التوالي، بعد إعلانها مناطق عسكرية، وتجويعها وتعطيشها، ما يدفع السكان إلى مغادرتها تماماً. وبعد ذلك، في المدن والقرى التي سويت بالأرض، يتمّ بناء المستوطنات.
وأما في لبنان، فحافظت الجبهة طوال 11 شهراً على مقدار من الهدوء تحت سقف حرب الاستنزاف التي فرضها «حزب الله». وعندما نضجت الظروف، وسّعت إسرائيل حربها على لبنان، حيث بدأت على ما يبدو تكرار سيناريو غزة.
ففي 17 أيلول الفائت، أطلق الإسرائيليون عمليتهم العسكرية ضدّ «حزب الله»، بدءاً بضربات «البايجر» واللاسلكي والتصفيات الصادمة والسريعة الوتيرة على مستوى الكوادر والقيادات العليا، ووصلوا إلى السيد حسن نصرالله بعد 10 أيام، وهم يلاحقون الكوادر على كل مساحة لبنان، وخصوصاً في البقاع والضاحية الجنوبية. كما يقومون باستهداف ممنهج لمستودعات السلاح والصواريخ والذخائر، حتى داخل الأراضي السورية، وفي المعابر والأنفاق.
ونتيجة لهذه الضربات، أظهر «الحزب» إرباكاً في المواجهة لأيام، لكنه سرعان ما استعاد جزءاً من قدراته ومرونته على 3 مستويات:
1- عودة قيادته الموقتة إلى المناورة السياسية، من خلال ما يعلنه الشيخ نعيم قاسم، حول وقف النار ومدى القبول بالقرار 1701.
2- إثبات القدرة على إيلام إسرائيل في حرب الشوارع التي تخوضها في الكيلومترات الأولى شمال الخط الأزرق.
3- تحسن الأداء في مجال استخدام الصواريخ الموجّهة، ما أوقع بالداخل الإسرائيلي والمواقع العسكرية هناك خسائر جسيمة.
ويبدو المشهد اللبناني الحالي شبيهاً إلى حدّ بعيد بمشهد غزة: تصفية القيادات وضرب المستودعات والأنفاق وقطع الإمدادات والتهجير بعد التدمير. لكن الأشدّ خطراً هو أيضاً تنفيذ ما يشبه «خطة الجنرالات» الغزّية في جنوب لبنان، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي إنشاء منطقة بعمق 5 كيلومترات مهدّمة ومحروقة وخالية من السكان تماماً، وفيها ستقوم إسرائيل بفرض قوانينها، فتطلق النار على «كل شيء يتحرك»، على غرار ما ستفعل في المناطق المشابهة في غزة.
هذا التشابه في الواقع الميداني يوازيه تشابه في الواقع السياسي الداخلي بين لبنان وفلسطين، حيث هناك انشقاق أهلي حادّ حول مفاهيم «المقاومة» وأساليب عملها ومشروعية حيازتها للسلاح وإمساكها بقرار الحرب والسلم على حساب السلطة المركزية.
إذاً، بناءً على هذه المعطيات، يمكن استشراف المرحلة الآتية من حرب لبنان. وكما فقدت «حماس» نفوذها في غزة، حيث باتت إسرائيل تسيطر عسكرياً، بالاجتياحات البرية حيناً وبالغارات الخاطفة أحياناً، فالسيناريو مرشح للتكرار في لبنان. وفي الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة، على الأرجح ستتكرّس المناطق المحروقة والعازلة في لبنان، بعد أن تعلن إسرائيل انتصارها عسكرياً وسياسياً هنا، على غرار انتصارها في غزة. وستكون لذلك انعكاسات سياسية عميقة في كل دول الشرق الأوسط، خصوصاً إذا نجحت إسرائيل في جرّ الولايات المتحدة إلى ساحة الحرب، كي تقاتل عنها على جبهة إيران. وهذا الأمر مرجح، أياً كان الفائز في الانتخابات الرئاسية.
فهل سينقذ لبنان رأسه بالاستجابة إلى كل متطلبات الشرعية الدولية؟
ثمة من يخشى أن يكون الأوان قد فات على تجنّب الكارثة، وأن يكون لبنان متجهاً إلى المصير الذي انتهت إليه غزة، في غضون أسابيع أو أشهر قليلة، إذ لا يبدو أحد قادراً على مساعدته لإنقاذ نفسه.
طوني عيسى