مقالات

دبلوماسية جني الأرباح أم تدارك الخسائر؟

‬ ناصر قنديل

– لم تتغير المعادلات الحاكمة للحروب الدائرة في المنطقة ودور الدبلوماسية فيها، مع العدوان الذي شنته قوات الاحتلال على إيران، لأن المسار ذاته كان واضحاً منذ العدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق حتى اغتيال القائد الشهيد إسماعيل هنية في طهران وصولاً إلى عدوان أمس، سواء لجهة أن الحرب مع قوى المقاومة ليست منفصلة عن المواجهة الأميركية الإيرانية وفي قلبها مكانة الكيان وقوة ردعه في الإقليم، أو لجهة أن مشروع الكيان الذي قال رئيس حكومته بنيامين نتنياهو إنه يهدف إلى إعادة صياغة الشرق الأوسط لا يتحقق دون إعادة صياغة حجم إيران في الإقليم.
– إذا صدقنا الرواية عن ضغوط أميركية على الكيان لتفادي المنشآت النووية والنفطية، فإن علينا أن نصدّق أن بمستطاع واشنطن أن تضغط وتستجاب عندما ترغب. وهذا يوجب على أصحاب نظرية الضغوط التسليم بأن واشنطن شريك في عمليات الإبادة والقتل في لبنان، لأنها لا تضغط وذلك لأنها لا تريد. وهذا يوجب علينا تالياً أن نسأل عما إذا كانت ضغوط واشنطن ناجمة عن تقدّم مسار تفاوض أميركي إيراني وهو ما لا يبدو له أي أساس أو أفق، أم هو ناتج عن حسابات واشنطن لما يُقال عن تفادي حرب إقليمية، أي التهرّب من المنازلة مع إيران. وماذا يعني ذلك غير أن واشنطن ترى أن ثمن تفادي المواجهة الشاملة مع إيران التي تسمّيها حرباً إقليمية ثمنه تفادي المساس بمؤسسات إيران الحيوية، وهي المؤسسات التي تزعج واشنطن وتل أبيب، والتي بنى بنيامين نتنياهو طوال عقدين كل مشروعه على الدعوة لاستهدافها، والدعوة هنا ناتجة عن الخشية من التداعيات، سواء على الكيان نفسه، بفعل الردّ المتوقع من إيران، أو على الملف النووي الإيراني المرشّح للتصعيد نحو إعلان إيران امتلاك سلاح نوويّ، أو على الاقتصاد العالمي نظام الطاقة وأسعار النفط ومستقبل البورصات العالميّة. وهذا في الحرب له توصيف واحد هو الردع، أي أن إيران تمتلك أوراق تأثير مباشرة وغير مباشرة تتكفل بردع واشنطن وتل أبيب عن المضي بلا ضوابط في استفزازها.
– عندما تفادى العدوان المنشآت الحيويّة لأن واشنطن وتل أبيب تقيمان الحساب للتبعات والتداعيات، فذلك لا يعني أنه كان شكلياً، فهو كان يستهدف تجريد إيران من قدرة الردع العسكرية، عبر استهداف نظام الدفاع الجوي ونظام الهجوم الصاروخيّ، كي يصبح ممكناً في جولات لاحقة التفكير بحسابات الذهاب الى مرحلة أعلى، لكن استعداد إيران، وتعاون روسيا، وفّرا فرصة نموذجية لإحباط العدوان ومنعه من تحقيق أهدافه، فقد تقابلت الـ “أف 35” والـ “اس اس 400” لأول مرة، كما اختبرت مئات الطائرات الأميركية والإسرائيلية المسيّرة المواجهة مع نظام الدفاع الجويّ الإيرانيّ من طراز 15 خرداد وصواريخ صياد، أو نظام “اي دي 120”، بعدما كانت إيران أسقطت طائرة التجسس الأميركية العملاقة RQ-4 Global Hawk في عام 2019، وكانت الحصيلة بعكس التمنيات الأميركية والإسرائيلية، حيث ربحت إيران الجولة، وكرّست تفوّق قوتها الردعية مرتين، مرة بإجبار واشنطن وتل أبيب على تفادي مؤسساتها الحيوية، ومرة بإفشال محاولات إسقاط قدرتها العسكرية.
– الردّ الإيراني يبدو أكيداً، لكن معادلة الردع قد حُسِمت في الإقليم، ما دامت واشنطن عاجزة عن تلبية ما تضمنته توصية الجنرال مارتن ديمبسي بتأمين نصف مليون جندي وتريليون دولار لترجمة قرار بحجم إنشاء منطقة حظر جوي فوق شمال سورية عام 2013، لأن ذلك قد يتحوّل إلى حرب شاملة تكون إيران طرفاً فيها، وما دام بقاء القواعد والقوات الأميركية في الخليج خصوصاً بعيداً عن الاستهداف مشروطاً بعدم التورط في حرب مباشرة مع إيران. وهذا يعني أننا نشهد أقصى ما يستطيعه الكيان في مواجهة إيران، بعدما شهدنا أقصى ما يستطيعه تجاه غزة، ثم أقصى ما يستطيعه تجاه لبنان، وها هو يفقد زمام المبادرة لإضافة حلقة جديدة في الحرب، أو افتراض القدرة على تغيير الاتجاه لما تجري عليه الحرب في جبهتي لبنان وغزة.
– الحركة الدبلوماسية الأميركية النشطة، التي يترجمها حراك المبعوث الأميركي أموس هوكشتاين على خط تل أبيب بيروت، ووصول مدير المخابرات الأميركية إلى الدوحة، يكشف انتقال واشنطن من دبلوماسية جني الأرباح، إلى دبلوماسية الحد من الخسائر، أسوة بما يفعله اللاعبون في البورصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *