إيران والحرب… نظرة عن قرب
ناصر قنديل
– أتاحت المشاركة في المؤتمر الدولي الذي نظّمته واستضافته الجمهورية الإسلامية في إيران في ذكرى أربعين يوماً على استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الفرصة لقراءة إيران عن قرب، كيف يقرأ المسؤولون الإيرانيون ما يجري، هل يرونه بعين تعتبر أن هناك مشروعاً لاستدراجها إلى حرب لا تريدها وعليها تفاديها؟ وهل تأثرت بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لتهيُّب المشهد أكثر، أم أنها تعتبر أنها في قلب الحرب وأن زمن الحسابات انتهى وأن على الكيان ومن خلفه أميركا مهما كان اسم رئيسها أن يقيما هما حسابات تظهر نية تصعيد الحرب أو الرغبة في تفادي التصعيد؟
– عندما تسمع جواد ظريف نائب الرئيس الإيراني، وهو الإصلاحي الداعيّ لاستئناف التفاوض حول الملف النووي، يقول «يجب على الكيان الصهيوني والولايات المتحدة أن يقبلا بأنهما لن يريا السلام حتى يتم احترام حقوق الشعب الفلسطيني وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم»، ويضيف أن «نهاية الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا مثال واضح يمكن أن يتكرّر ويجب أن يتكرّر. وهذه هي رسالة دماء السيد حسن نصر الله وقاسم سليماني وإسماعيل هنية ويحيى السنوار وغيرهم من قادة المقاومة وقادة طريق الجهاد والاستشهاد»، يثبت لك حجم الفصل الذي تقيمه القيادة الإيرانية بين الاجتهادات المختلفة حول الملفات الداخلية ومقاربة العلاقة بالغرب من زاويتها، وفي قلبها الملف النووي، وبين المواجهة القائمة تحت عنوان فلسطين والسيادة الوطنية الإيرانية في قلبها، حيث اتفاق تام بالوقوف في خط المواجهة، وإدراك أن الموقف التفاوضي بالنسبة لدعاة التفاوض لا يُصنع إلا من باب الظفر بهذه المعركة.
– ربّما تكون دماء السيد حسن نصرالله قد نقلت إيران وموقعها في الحرب من مرحلة إلى مرحلة، ذلك أن إيران بكل أجنحة الحكم والمجتمع فيها، تدرك أن اغتيال السيد نصرالله كان قراراً أميركياً إسرائيلياً بإنهاء المقاومة في المنطقة، بما يعنيه ذلك، وفقاً لما يكتبه الأميركيون والإسرائيليون، أنه مقدمة لإنهاء أي دور إقليمي لإيران. هذا إضافة إلى أن وجود السيد نصرالله كان يُعفي إيران من امتلاك مقاربة خاصة بها تجاه الحرب والاكتفاء بتلبية ما يراه نصرالله ضرورة مطلوبة من إيران، وبغيابه بات عليها هي أن تنتبه لحجم أعلى من الدور بات مطلوباً في معركة أصبح الترابط فيها عضوياً بين مستقبل حركات المقاومة ومستقبل إيران، بصورة أشدّ مما نظرت عبره إيران إلى الحرب على سورية وموقعها فيها.
– عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، كانت حدثاً تاريخياً استثنائياً، فقد قدّمت بالإضافة لمثال الثورة الشعبية السلمية المظفرة بوجه أعتى أنظمة القمع والطغيان المدعوم من كل قوى الاستكبار، وعلّمت الشعوب وصفة النصر، مثالاً جديداً لفهم الإسلام. هذا الدين الذي يحرّك ربع البشرية المنتشرة على مساحات الكرة الأرضية كلها. وجاء هذا الفهم يتجاور أحياناً ويتساكن أحياناً ويتصادم بإرادته أو خلافاً لإرادته، مع نماذج أخرى سادت قبله لفهم الإسلام، يمكن تصنيفها وفقاً لمعايير الفلاسفة اليونانيين، بالإسلام الهوائي القائم على الاكتفاء بالشكليّات، والذي يعيش على القشرة، وشجّع الحكام هذا الإسلام الذي لا يتدخّل في السياسة ورأوه مناسباً لاستفرادهم واحتكارهم تنظيم شؤون الحكم والحياة. وكان هناك الإسلام المائيّ وهو إسلام المال والسلطة الذي يهتمّ بترويج سياسات الحاكم ويعلنه أميراً للمؤمنين ولياً للأمر، ويبرّر التبعية للغرب. وجاء إسلام الثورة الإسلاميّة ترابياً متصلاً بالأرض منشغلاً بزرع الخير والتشجيع على اعتبار الكرامة الإنسانية من المقدّسات، ينصر المظلوم ويواجه الظالم، ما استدعى إنتاج إسلام منافس هو الإسلام الناري الشيطاني الذي مثلته الجماعات الإرهابية المتطرفة، ليخلق التشويش بين روح المقاومة والإرهاب، وبين الدعوة للأصول الإسلامية الصحيحة ومصطلح الأصولية القائمة على التخلف والتطرف.
– كانت البلاد العربية هي ساحة المنازلة التي سعت القوى الدولية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لإغلاقها بوجه الإسلام الترابي الذي مثلته الثورة الإسلامية، حيث نشطت نماذج الإسلام الهوائي والمائي والناري لتطويق الإسلام الترابي، إسلام القضايا، لكن كان على الإسلام الترابي، حيث الإمام الخميني رمزه الاستثنائي ومن بعده حامل الراية الإمام الخامنئي، أن يتخطّى مجموعة من الحواجز ليربح المنازلة، حيث من ينتصر هذه المرة يقود العالم الإسلامي وعبره العالم. وأبرز هذه التحديات كان حل معضلة الوطنية والدين، وهي معضلة غير موجودة في إيران، حيث غير المسلمين أقليّة ضئيلة، وحيث القوميات المتعددة توحّدت تحت لواء وطنية جديدة هي الإسلام، فصارت الجمهورية بإسلامها قادرة على ضمان وحدة الشعب والأرض في إيران، وإلى جانبها معضلة إثبات المصداقية في قضية فلسطين، التي تشكل قضية العرب والمسلمين الأولى، وإيران بعيدة آلاف الكيلومترات عنها، ومعهما معضلة تجاوز حاجز القوميّة الذي ارتفع فجأة بين العرب والإيرانيين، وفجأة أيضاً ولد التحدّي وولدت الفرصة التاريخية، فمع اتفاقيات كامب ديفيد للصلح مع كيان الاحتلال وقع اجتياح لبنان وولدت برعاية إيرانية المقاومة الإسلامية تحدياً وفرصة لحل كل هذه المعضلات، حتى برز من بين صفوفها للعرب إمام يحمل راية الإسلام الخميني الترابي، المؤمن بولاية الإمام الخامنئي والصادق المخلص في ولائه، ليتقدّم الصفوف إماماً للعرب والمقاومة والأخلاق.
– نجح السيد نصرالله برفع مكانة خط الإمام الخميني وقيادة الإمام الخامنئي إلى مرتبة عالية في عيون شعوب المنطقة، فكان هذا الإمام العربي الذي تحتاجه الثورة الإسلامية، وكتاب الثورة الناطق بالعربية، وقد ربط انتصارات المقاومة وصعودها كقوة إقليمية بقيادة الإمام الخامنئي، كما ربط ظهور محور المقاومة وتنامي قوته بوجود هذه القيادة ودعمها. وجاءت مساهمته في جبهة إسناد غزة تعبيراً عن فلسفة تحمّل العواقب في المعارك الوجودية. وقد فرض طوفان الأقصى معركة وجودية إذا تركت فيها حماس تُهزم فسينال الكيان ومن خلفه أميركا من قوى المقاومة، وهذا يصح بالنسبة لما يجب على إيران أن تراه اليوم بعيون نصرالله، وبمثل ما اجتاز السيد نصرالله التعقيدات الوطنية والإقليمية والدولية التي تشكل عوائق أمام فتح جبهة الإسناد بما هي إعلان سقوط لمعادلات اتفاقية سايكس بيكو، ونظريات لبنان أولاً ومصر أولاً وسورية أولاً وما يشبهها، فإن القيادة الإيرانية تدرك أنها تضع قضية الدفاع عن السيادة الإيرانيّة عنواناً مضافاً لعنوان نصرة قوى المقاومة، كما فعل السيد نصرالله بالنسبة للدفاع عن لبنان وموقعه الصادق في خطاب معركة الإسناد، وأن القضية الرئيسية في الحرب صارت الخروج بنصر قوى المقاومة وإيران معها، مع معيار واقعيّ للنصر يتمثل في إسقاط أهداف الحرب، كما رسمتها قوى المقاومة في فلسطين بوقف العدوان وانسحاب الاحتلال عبر اتفاق مع المقاومة في غزة وفي لبنان، كما يقول خطاب المقاومة بوقف إطلاق النار والعودة غير المشروطة الى القرار 1701.
– على خلفية هذه النظرة تقارب إيران حتميّة الردّ القويّ المقبل على الاستهداف الإسرائيلي لسيادتها. ووظيفة هذا الرد مزدوجة، من جهة حسم أمر الردع الإقليمي لحساب إيران، ومن جهة موازية إيصال رسالة القوة التي يجب أن تسهم في إفهام قيادة الكيان بلا جدوى الرهان على المضي في الحرب. وفي الأمرين لا يقيم الإيرانيون حسابات كثيرة لما يفترض البعض من انشغال بتقييم معاني وأبعاد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات، وهي تنظر للخيارين الديمقراطي والجمهوري في واشنطن بعين واحدة، ولها مع كليهما ثأر، لكن ميزان القوى هو الذي يمكن أن يفرض التفاوض الندّي الذي لا تقبل إيران أقل منه، وحتى يحدث ذلك يكرر الإيرانيون كلمات السيد نصرالله، بيننا الأيام والليالي والميدان، أما بعد نهاية الحرب وفي اليوم الأول بعد أيام الحرب فيقول الإيرانيون إن إيران حاسمة ولا تردّد لديها تجاه تحمّل المسؤولية عن إعادة الإعمار في لبنان وغزة ولو تخلف الجميع، أما أن تسبب بإقدامها استنهاض الآخرين ولو من باب الغيرة وعدم تركها تتفرّد بالمهمة، فأهلاً وسهلاً بالجميع.