عبد الباري عطوان
تقف العاصمة الفرنسيّة باريس على أعتابِ حربٍ كُبرى مُحتملة بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ونحنُ نتحدّث هُنا عن حالةِ طوارئ غير مسبوقة تعيشها حاليًّا قبل يومين من المُباراة الكرويّة التي ستُقام مساء يوم الخميس بين مُنتخبيّ فرنسا ودولة الاحتلال الإسرائيلي في الاستاد الدولي بحُضور 80 ألف مُشجّع.
السّلطات الفرنسيّة تُصَنِّف هذه المُباراة بأنّها عالية الخُطورة، وستُقام وسط استِنفار أمني كبير وإجراءات استثنائيّة، لتأمين الفريق الإسرائيلي ومُشجّعيه، هذا إذا حضروا، داخل المعلب وخارجه والأحياء العربيّة والإفريقيّة المُجاورة، ووسائل المُواصلات العامّة، ولهذا حشدت أكثر من 5000 رجل أمن ثُلثهم داخل الملعب والباقي خارجه، علاوةً على آلافٍ آخَرين سيندسّون بين المُشجّعين بالملابس المدنيّة.
وزير الداخليّة الفرنسي الذي رفض إلغاء المُباراة، أو تأجيلها، سيندم كثيرًا على قراره هذا، في ظِل حالةِ الاحتقان التي تسود الجاليات العربيّة والإسلاميّة من كُل الجنسيّات بسبب حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضدّ أبناء الشّعبين الفِلسطيني واللبناني، وأدّت إلى استشهاد أكثر من 46 ألفًا معظمهم من الأطفال والنّساء، وإقدام مُشجّعي الفريق الكروي الإسرائيلي (ميكابي تل أبيب) على تمزيق الأعلام الفِلسطينيّة في أمستردام، والاعتداء على أبناءِ الجالية المغربيّة وحرق سيّاراتهم.
اللّاعبون الإسرائيليّون، ومُشجّعوهم لا علاقة لهم بالرّياضة من قريبٍ أو بعيد، وإن وُجدت فهي هشّة، فمُعظمهم جُنود احتياط في الجيش الإسرائيلي، ولا نستبعد أنّ نسبة كبيرة منهم شاركوا في حُروب الإبادة هذه، ولذلك فإنّ القول بأنّهم رياضيّون أُكذوبة لا يجب أنْ تنطلي على أحد.
نستغرب كيف تُدافع الحُكومات الأوروبيّة عن المُشجّعين وحُكومتهم، وهُم الذين بدأوا بأعمالِ العُنف ضدّ أهلنا أبناء الجالية المغاربيّة في أمستردام، ومزّقوا العلم الفِلسطيني، وردّدوا شعاراتٍ عُنصريّة، ومارسوا كُل أنواع الابتِزاز والاستِفزاز، هؤلاء يجب أنْ يُطردوا من كُل البُطولات الرياضيّة العالميّة، لأنّ مُعظمهم مُجرمو حرب، ويُمثّلون دولة إرهابيّة تشن حرب إبادة وتطهير عِرقي في غزة والضفّة ولبنان واليمن.
احتجاجات أبناء الجاليات العربيّة والإسلاميّة والإفريقيّة على هذا التّواطُؤ من قِبَل حُكومات أوروبا مع المجازر الإسرائيليّة، مُبرّرة خاصَّةً عندما تتّهمها هذه الحُكومات بمُعاداة السّاميّة، بينما لا تعتبر العرب والمُسلمين أصل السّاميّة، أو حتّى ينتموا إلى الإنسانيّة، في كشفٍ فاضحٍ لتوجّهاتها (أي الحُكومات) العُنصريّة البغيضة.
هذه السّاميّة التي يُدافع عنها بعض الأوروبيين هي التي تقتل 20 ألفًا من الأطفال جُوعًا وحَرقًا أو بالرّصاص، أو تحت الأنقاض في غزة والضّاحية الجنوبيّة لبيروت، وحوّلت قطاع غزة إلى أضخم مقبرةٍ في التّاريخ، وكومة من الأنقاض، ناهيك عن حرب التّجويع والتّعطيش التي يُمارسها هؤلاء “السّاميون” القتلة والمُزوّرون.
لا نفهم كيف تُقدم أوروبا على حظر روسيا ومنعها من كُل المُسابقات الدوليّة الرياضيّة، هي التي لم ترتكب واحد في المئة من المجازر التي مارستها وتُمارسها دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة أثناء حرب روسيا في أوكرانيا، وأبدت قوّاتها كُل الحِرص على تجنّب قتل المدنيين أو حرقهم أحياء، أو تترك جثثهم في الشّوارع وتحت الأنقاض لتأكُلها الكِلاب.
ما الخطأ في رفع مُشجّعين فرنسيين علم فِلسطين في الملعب، فهل العلم مدفع كلاشنكوف، أو أن يرفع مُشجّعو نادي باريس سان جرمان لافتة عملاقة تقول “فلسطين حرّة” في المدرّجات أثناء مُباريات فريقهم في الدوري الفرنسي أو الأوروبي، فهل تُريد فرنسا وحُكومتها ورئيسها الذي أهانه نتنياهو، ويُطالب بمُحاكمته، أن تظل فِلسطين تحت الاحتلال والقمع إلى الأبد، وهي التي صادقت على قرارات مجلس الأمن التي تُطالب بقيام دولة فِلسطينيّة مُستقلّة، أي حضارة هذه، وأي حُقوق إنسان التي يتحدّثون عنها.
الإسرائيليّون قتلة الأطفال لم يَعُد مُرحّب بهم في مُعظم العواصم الغربيّة، ويجب أن يُطردوا من كُل المُسابقات الكرويّة الدوليّة مُشاركةً أو تشجيعًا، لأنّهم ليسوا فوق القوانين الدوليّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وابتزازهم للعالم يجب أنْ يتوقّف، أو يُوقف فورًا بالحجّة والمنطق واحترام القانون الدولي، أو بالقوّة إذا تعذّر ذلك.
نتمنّى على جميع اللّاعبين المُسلمين والأشقّاء الأفارقة الانسحاب من المُنتخب الفرنسي في هذه المُباراة كبادرة احتجاج على المجازر وحرب الإبادة التي تُمارسها الدّولة التي يُمثّلها هذا الفريق الذين سيُواجهونه يوم الخميس المُقبل، وهُم الذين على اطّلاعٍ على سُلوكهم ومُشجّعيهم الذي تمثّل في الاعتداء على أهلهم المغاربة في أمستردام، ناهيك عن غزة ولبنان.
الأشقّاء المغاربة دافعوا ببُطولةٍ عن قيم العدالة، وانتصروا لشُهداء فِلسطين ولبنان واليمن عندما وضعوا حدًّا لغطرسة وجرائم مُشجّعي فريق “مكابي تل أبيب” في “غزوة” أمستردام، وأعتقد أنّ الدّور القادم جاء للأشقّاء الجزائريين أبناء المُجاهدين الثوّار العِظام وأحفادهم، للانتِصار لأهلهم وشُهدائهم في الأراضي الفِلسطينيّة المحتلّة، برفع الأعلام وترديد الشّعارات الوطنيّة، وإسماع صوتهم لكُل الفرنسيين والعالم بأسْرِه، والتصدّي لأيّ تطاولٍ من قِبَل مُمثّلي حرب الإبادة، سواءً كانوا في المُنتخب الإسرائيلي، أو من مُشجّعيه القادمين من تل أبيب، أو مُندسّين في المُجتمع الفرنسي.
تصرّفات قوّات الأمن الفرنسيّة وكيفيّة تعاطيها مع الاحتجاجات السلميّة المشروعة، وتفهّم حالة الغضب في نُفوس أبناء الجاليات الإسلاميّة أو عدمه، هي التي ستُهدّئ الأوضاع أو تصب الزّيت على نار الغضب المشروع والتّعبير عنه بحُريّةٍ مُطلقة، فالاستاد الفرنسي الدولي الذي ستُجرى على أرضه هذه المُباراة يقع على خطّ التّماس مع الجاليات الإسلاميّة، والجزائريّة والإفريقيّة تحديدًا، وأحياء الصّفيح، وأي شرارة قمع ستُشعل فتيل الانفجار والاحتقان، وحتّى لا يُساء فهمنا نُؤكّد أنّنا نقف في خندق الاحتجاجات السّلميّة، ونُعارض كُل أشكال العُنف.
الحُكومة الفرنسيّة وقفت في الخندق الإسرائيلي مُنذ اليوم الأوّل من حرب الإبادة في غزة، وفتحت ترسانتها لدعم آلة الحرب والقتل الإسرائيليّة، وبرّرت المجازر الإسرائيليّة بحُجّة حقّ الدّفاع عن النّفس، فهل قتل الأطفال وحرقهم وأمّهاتهم وأهلهم هو دفاعٌ عن النّفس يا سيّد ماكرون؟ وهل ذريعة “مُعاداة السّاميّة” تُعطيك، وحُكومتك، وقوّات أمنك الحق في قتل أو اعتقال أهلنا العرب والمُسلمين في فرنسا إذا قالوا كلمتهم احتجاجًا على حرب الإبادة.
نسأل ولا ننتظر الإجابة، ونكتفي بالتّذكير أنّ هذه السّياسات والمواقف “العوراء” واللّاإنسانيّة التي تتبنّوها في فرنسا، ودول غربيّة أُخرى، إذا استمرّت ستجعلكم تدفعون ثمنًا باهظًا من أمنكم واستِقراركم ورخائكم.. والأيّام بيننا.