الحدود اللبنانية ـ السورية تحت الدرس
موجة التفاؤل باقتراب الإعلان عن وقف إطلاق النار والتي رافقت تسليم الورقة الأميركية للبنان سرعان ما تبدّدت، خصوصاً أنّ بعض البنود لم تكن واضحة كفاية وتحتاج إلى كثير من الوقت والأخذ والردّ لتوضيح تفاصيلها. أضف الى ذلك أنّ النيات الإسرائيلية الحقيقية بقيت غامضة وسط تصعيد عنيف جواً وبراً، وهو ما أوحى بأنّ الظروف المطلوبة لم تنضج بعد.
وربما لأجل ذلك آثر المسؤولون اللبنانيون على التعاطي بمرونة شكلية مع الورقة الأميركية، ولكن مع وجود توجّس ضمني من إمكانية التوصل الى تفاهمات قريبة. ذلك أنّ إسرائيل كانت قد خاضت وطوال عام كامل أسلوب المراوغة في التعاطي مع أوراق التسويات في غزة. إلّا أنّ هذه الأوراق كانت تسقط تباعاً، وبدا أنّ الهدف الإسرائيلي كان تحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية التعطيل ما يعطيه «التبرير» أمام الرأي العام لمواصلة حربه التدميرية. وقياساً على تجربة غزة كان لا بدّ للبنان من أن يتعظ من دروس مفاوضات غزة، وأن يتعاطى بإيجابية من حيث الشكل تجنّباً للأفخاخ الإسرائيلية. ونقل عن الرئيس نبيه بري قوله إنّ الورقة الأميركية في حاجة إلى كثير من الوقت ومن الأخذ والردّ، ولو أنّها تصلح لأن تكون مرتكزاً أو منصة انطلاق لمفاوضات صعبة ومتشعبة.
ولم تكن أجواء بعض العواصم الدولية المتابعة للحرب الدائرة في لبنان أقل تشاؤماً. ذلك أنّ أوساطها الديبلوماسية نقلت عن اسرائيل أنّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لا يريد أن يتوقف الآن لاعتباره أولاً، أنّ الظروف الأميركية باتت أكثر ملاءمة للإندفاع الى الأمام، وثانياً، لأنّ أي توقف للحرب الآن ووفق المعطيات الميدانية الحالية سيمنح إسرائيل انتصاراً محدوداً لن يلبث «حزب الله» ومن خلفه إيران على تعويضه سريعاً خلال السنوات المعدودة المقبلة. ووفق الأوساط الديبلوماسية نفسها فإنّ نتنياهو أوحى لعدد من الدول المهتمة بأنّه يريد انتصاراً مكتملاً أو بما معناه تغيير المعادلة اللبنانية جذرياً، وذلك من خلال إخراج النفوذ والتأثير الإيرانيين نهائياً من الساحة اللبنانية. وتضيف الأوساط نفسها أنّ نتنياهو متفاهم حول هدفه مع واشنطن وخصوصاً مع الرئيس المنتخب دونالد ترامب وكبار معاونيه، وأنّ ترامب وضع خططه للخطوات التي سينتهجها تجاه إيران حال دخوله الى البيت الأبيض.
واستطراداً فإنّ المراقبين يعتقدون أنّ تبادل الإقتراحات حول البنود الـ 13 للورقة الأميركية لن يؤدي الى تبريد أو حتى تراجع الواقع الميداني، لا بل على العكس فهو سيؤدي الى ارتفاع أكبر في السخونة، وهو ما ظهر في وضوح خلال الأيام الماضية، وهو مرشح الى مزيد من التصعيد خلال الأسابيع المقبلة وصولاً الى الثلث الأخير من شهر كانون الثاني موعد تسلّم ترامب لصلاحياته الدستورية رسمياً.
وترجح هذه الأوساط الديبلوماسية أن يرتفع مستوى الحماوة على محورين، الأول من خلال تكثيف الغارات والإستهدافات الجوية، بحيث تصل الى الذروة. والثاني على المستوى البري ومن خلال السعي لتحقيق تقدّم على محوري بنت جبيل والناقورة. إضافة الى السعي لتوسيع عمق الشريط لرهانه على أنّ هذا الواقع الجديد سيسمح له بفرض شروطه على طاولة المفاوضات.
ولأنّ المطروح هو دفع إيران الى الخروج من لبنان ولاحقاً من سوريا، باشر فريق ترامب في توجيه الرسائل في هذا الإطار، وعلى أساس أنّ إدارته ستمارس سياسة الحدّ الأقصى من الضغوط الإقتصادية من اليوم الأول لها في السلطة. فهي تدرك أنّ العملة الإيرانية خسرت مزيداً من قيمتها خلال الأسابيع الأخيرة، ما سيضاعف من مستوى الأزمة الإقتصادية الداخلية. وفي موازاة ذلك ستطرح إدارة ترامب الذهاب الى تسوية عريضة عنوانها البرنامج النووي الإيراني وشطب العقوبات الإقتصادية، في مقابل التزام إيران بصرف النظر عن مشروع «تصدير الثورة»، وبالتالي إيقاف دعمها للمجموعات المتحالفة معها في الساحات العربية.
وفي الوقت نفسه، باشرت الديبلوماسية الروسية حركتها الإستكشافية حيال المطالب التي حملها الوزير الإسرائيلي رون ديرمر الى موسكو. وقد يكون الكرملين الذي جاء وقع فوز ترامب مريحاً عليه، وجد أنّ الظروف تسمح للذهاب الى صفقة شاملة تبدأ من الدور الروسي المطلوب عند الحدود اللبنانية ـ السورية وتصل الى إقفال ملف الحرب في أوكرانيا، ومروراً بشطب العقوبات المفروضة على الإقتصاد الروسي.
صحيح أنّ موسكو تجنّبت إعطاء ديرمر أجوبة واضحة وحاسمة، لكنها بدأت في إجراء جسّ نبض ورسم صورة أولية للمشهد، ووجدت أنّ التعقيدات حول ضمان الحدود اللبنانية ـ السورية متعددة، وهي تبدأ من مستوى تأثر علاقتها الإستراتيجية بطهران وتمرّ بالقوى المتحالفة مع إيران على الساحة السورية، والتي لا يزال يعتمد عليها الجيش الروسي، وانتهاء بالتشابكات والتعقيدات الكثيرة التي تختزنها هذه الحدود. فعلى سبيل المثال، وجدت روسيا أنّ الحضور السنّي هو الطاغي على جانبي الحدود، وهو ما يعني وجوب وجود قيادة سنّية قوية في لبنان قادرة على أن تؤمّن غطاءً قوياً للعمل العسكري الذي سيواكب عملية ضبط الحدود. ومن هذه الزاوية قرأت أوساط مراقبة لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالرئيس سعد الحريري المستنكف عن العمل السياسي خلال زيارته لأبو ظبي.
وعلى المستوى الأميركي، لفتت التعزيزات التي استقدمتها القوات الأميركية من العراق الى شمال سوريا وشرقها، ورصدت عشرات الشاحنات المحمّلة بالمعدات العسكرية واللوجستية، إضافة الى صناديق مغلقة تمّ إنزالها في المواقع العسكرية الأميركية في سوريا، وأيضاً الى عدد من الطائرات والتي حملت أنظمة للحماية الجوية وإمدادات عسكرية. ووضع المراقبون هذه الحركة الأميركية في إطار الخطوات التحضيرية، تمهيداً لقطع خطوط الإمداد والتي تُستخدم للسلاح والذخائر من العراق إلى سوريا فحزب الله. هذا إضافة الى حماية هذه المواقع من أي استهدافات عسكرية قد تحصل ضدّها مستقبلاً، على رغم من أنّه لا توجد حتى الآن مؤشرات جدّية وحقيقية حول قرب دخول واشنطن وطهران في نزاع عسكري عبر قوى محلية متحالفة معهما. كما أنّ هذه التعزيزات تناقض ما ردّده ترامب أكثر من مرّة بأنّه يريد سحب القوات الأميركية من سوريا. وهذا ما يرفع الإحتمال بأنّ الهدف من هذه التعزيزات هو مهمّة محدّدة لها علاقة بقطع طريق التواصل البري بين إيران ولبنان. مع الإشارة الى أنّ واشنطن تريد لاحقاً إخضاع الطريق الذي يربط قاعدة التنف بدمشق ومنها ببيروت للرقابة الأميركية الدائمة.
ومن هذه الزاوية يمكن تفسير الإستهداف الإسرائيلي الدائم والمتواصل لمنطقة القصير الحدودية مع لبنان، والتي تشكّل الممر الحدودي الرئيسي للطريق البري الإيراني إلى لبنان. ووفق التقارير فإنّ الطائرات الإسرائيلية تعمل على تدمير كل المنشآت القائمة في تلك المنطقة.
ووفق ما تقدّم، يظهر في وضوح أنّ الحركة الديبلوماسية القائمة على تبادل الأفكار والملاحظات والأوراق، إنما تهدف فعلياً الى استهلاك الوقت وربما إنضاج خريطة الحل، ولكن في موازاة سخونة «حربية» واستعدادات ميدانية قد تمتد حتى شباط المقبل.
جوني منير