حكم طواف الحائض بالبيت الحرام
المفتي الشيخ الدكتور أحمد محيي الدين نصاريكثير في الحج السؤال عن حكم المرأة الحائض لطواف الإفاضة، وخاصة بالنسبة للنساء اللاتي لا يستطعن البقاء في مكة المكرمة حتى يطهرن وذلك لارتباطهن ببرامج المجموعات من حيث الإقامة والتنقل الجبرية، ونحو ذلك. وهذه المسألة قد بحثت تحت عنوان حكم اشتراط الطهارة في الطواف، وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:القول الأول: أن الطهارة شرط لصحة الطواف. وهو مذهب الجمهور: المالكية1، والشافعية2، والحنابلة في المشهور من المذهب3. واستدلوا بما يأتي:
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت صلاة إلا أنّكم تتكلمون فيه، فلا تتكلموا إلا بخير)4.
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأن رواية الحديث مرفوعاً ضعيفة والصحيح وقفه على ابن عباس. قال الترمذي5: “روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن السائب”.
وأما كون الطواف يشبه الصلاة فقد بيّن ابن تيمية6 ضعف الاحتجاج بهذا المعنى في اشتراط الطهارة في الطواف قياساً على الصلاة بقوله: “والاحتجاج بقوله: (الطواف بالبيت صلاة) حجة ضعيفة، فإن غايته أن يشبه الصلاة في بعض الأحكام وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، وإنما أراد أنه كالصلاة في اجتناب المحظورات التي تحرم خارج الصلاة، فأما ما يبطل الصلاة وهو الكلام، والأكل ، والشرب، والعمل الكثير، فليس شيء من هذا مبطلاً للطواف، وأنكره فيه؛ إذا لم يكن به حاجة إليه، فإنه يشغل عن مقصوده، كما يكره مثل ذلك عند القراءة، والدعاء، والذكر، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة)، وقوله: (إذا خرج أحدكم إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه فإنه في صلاة) ولهذا قال: (إلا أن الله أباح لكم فيه الكلام)، ومعلوم أنه يباح فيه الأكل والشرب، وهذه محظورات الصلاة التي تبطلها: الأكل، والشرب، والعمل الكثير، ولا يبطل شيء من ذلك الطواف، بل غايته أنه يكره فيه لغير حاجة، كما يكره العبث في الصلاة، ولو قطع الطواف لصلاة مكتوبة، أو جنازة أقيمت: بنى على طوافه، والصلاة لا تقطع لمثل ذلك، فليست محظورات الصلاة محظورة فيه، ولا واجبات الصلاة واجبات فيه: كالتحليل، والتحريم، فكيف يقال: إنّه مثل الصلاة فيما يجب لها ويحرم فيها، فمن أوجب لـه الطهارة الصغرى فلابد لـه من دليل شرعي، وما أعلم ما يوجب ذلك”. - واستدلوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت)7. وقد قال: (خذوا عني مناسككم)8.
وقد نوقش هذا الدليل بأن وضوءه صلى الله عليه وسلم الوارد في الحديث فعلٌ مطلق لا يدل على الوجوب فضلاً عن كونه شرطاً في الطواف. - واستدلوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قدمت مكّة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، قالت: فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: افعلي كما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)9. وقد بوب لـه البخاري رحمه الله تعالى بقوله: (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت)، وهو دليل على أن الطهارة شرط لصحة الطواف .
ونوقش هذا الدليل بأن نهيه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها عن الطواف وهي حائض إنّما هو من أجل فعل الأولى طالما أنّها غير مضطرة للسفر أو ملزمة ببرنامج تنقل لجماعتها في الحج كون النبي المصطفى هو صاحب القرار وهو انتظرها، لا من أجل أن الحيض مانع من الطواف10. - واستدلوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنّها حائض، فقال: أحابستنا هي. قالوا: يا رسول الله: أفاضت يوم النحر فقال: اخرجوا)11.
- واستدلوا بالقياس12 على الصلاة؛ لأن الطواف عبادة لها تعلق بالبيـت فوجب أن يكون من شرطها الطهارة كالصلاة.
ونوقش هذا الاستدلال بأن قياس الطواف على الصلاة في اشتراط الطهارة بجامع أن كل واحد منهما عبادة متعلقة بالبيت؛ لا دليل عليه. قال ابن تيمية13: “.. وهذا القياس فاسد؛ فإنه يقال: لا نسلم أن العلة في الأصل: كونها متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلاً على ذلك، والقياس الصحيح ما بيّن فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم، أو دليل العلة أيضاً، فالطهارة إنّما وجبت لكونها صلاة سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق، ألا ترى أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضاً شرطاً فيها، ولم تكن متعلقة بالبيت، وكذلك أيضاً إذا صلى إلى غير القبلة كما يصلي المتطوع في السفر، وكصلاة الخوف راكباً، فإن الطهارة شرط وليست متعلقة بالبيت. وأيضاً النظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت ولا يشترط لـه الطهارة ولا غيرها. ثم هناك عبادة من شرطها المسجد ولم تكن الطهارة شرطاً فيها كالاعتكاف، وقد قال تعالى: (وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)، فليس إلحاقه بالعاكف بل بالعاكف أشبه؛ لأن المسجد شرط في الطواف، والعكوف، وليس شرطاً في الصلاة، فإن قيل: الطائف لابد أن يصلي الركعتين بعد الطواف والصلاة لا تكون إلا بطهارة. قيل: وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قدر وجوبهما لم تجب فيهما الموالاة، وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ومعلوم أنه لو خطب محدثاً تم توضأ وصلى والجمعة جاز، فلأن يجوز أن يطوف محدثاً ثم يتوضأ ويصلي الركعتين بطريق الأولى، وهذا كثير ما يبتلى به الإنسان إذا نسي الطهارة في الخطبة والطواف، فإنه يجوز له أن يتطهر ويصلي وقد نص على أنه إذا خطب وهو جنب جاز”.
القول الثاني: أن الطهارة ليست بشرط لصحة الطواف بل هي واجبة؛ فإن طاف بغير طهارة عن الحدث والجنابة والحيض والنفاس، جاز الطواف بدونها، والأفضل أن يعيد، وإن لم يعد فعليه دم. وهو مذهب الحنفية14، والحنابلة في قول لهم عليها دم، وقول آخر لا دم عليها للعذر15.
قال الغنيمي الميداني: “ومن طاف طواف القدوم محدثاً فعليه صدقةٌ، وإن طاف جنباً فعليه شاةٌ، ومن طاف طواف الزيارة محدثاً فعليه شاةٌ، وإن طاف جنباً فعليه بدنة، والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه، …، ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواطٍ فما دونها فعليه شاةٌ، وإن ترك أربعة أشواطٍ بقي محرماً أبداً حتى يطوفها، ومن ترك ثلاثة أشواطٍ من طواف الصدر فعليه صدقةٌ، وإن ترك طواف الصدر أو أربعة أشواطٍ منه فعليه شاةٌ”16، وذلك اعتماداً على القاعدة الأصولية عندهم؛ (الأكثر يقوم مقام الكل)17.
وقال المرداوي18: “وأما الطواف: فتشترط له الطهارة على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، فيحرم عليه فعله بلا طهارة، ولا يجزيه. وعنه يجزيه، ويجبر بدم، وعنه: وكذا الحائض، وهو ظاهر كلام القاضي. واختاره الشيخ تقي الدين؛ وقال: لا دم عليها لعذر. وقال: هل هي واجبة، أو سنة لها؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره”.
واستدلوا بما يأتي: - بعموم قول الله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)19؛ والمأمور به في الآية الطواف وهو اسم للدوران حول البيت وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة فيه يكون زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس، لأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد20.
ونوقش هذا الاستدلال بأنّ الزيادة على النص هو التفصيل وليس بنسخ؛ ذلك أن الزيادة إذا أثبتت شيئاً نفاه المتواتر، أو نفت شيئاً أثبته، فهي نسخ لـه، وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء، لم يتعرض له النص المتواتر، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكماً شرعياً، وإنّما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية، ورفعها ليس بنسخ21. - واستدلوا بالقياس على سائر الأركان في الحج كالوقوف بعرفة وغيره فلا يشترط لها طهارة.
وقد نوقش استدلالهم بأن القياس على سائر أركان الحج يجعل النتيجة عدم اشتراط الطهارة أو وجوبها في الطواف كسائر أعمال الحج22.
القول الثالث: أن الطهارة ليست بشرط لصحة الطواف بل هي سنة. وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد بن سليمان، ومنصور بن المعتمر، والأعمش، والحكم بن هشام.. 23، وهو اختيار محمد بن شجاع الثلجي الحنفي24، واختيار المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي من المالكية، وقول عند الحنابلة اختاره ابن تيمية24 وابن القيم26.
قال ابن عبد البر27 “روى شعبة عن منصور وحماد والأعمش في الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة لم يروا بذلك بأساً”…. ثم قال: “من أجاز الطواف على غير طهارة قاسه على إجماع العلماء في السعي بين الصفا والمروة أنّه جائز على غير طهارة، ومن لم يجزه إلا على طهارة احتج بما تقدّ من قوله عليه السلام: (تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ)، وقوله وقول أصحابه: (الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ) وهو مرتبط بالبيت بعده ولا خلاف بينهما أنها لا تَجْزِي على غير طهارة”.
قال ابن مفلح28: “وتشترط الطهارة من حدث، قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق، وعنه: يجبره بدم. وعنه: إن لم يكن بمكة، وعنه: يصح من ناسٍ ومعذورٍ فقط، وعنه: ويجبره بدم، وعنه: وكذا حائض، وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة، واختاره شيخنا، وأنه لا دم لعذر، وقال: هل هي واجبة أو سنة لها؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره”.
وقال ابن تيمية29عن أدلة قول الجمهور: “والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً، فإنه لم ينقل أحدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنّه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم بأنّه قد حجّ معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمراً متعددة، والنّاس يعتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً للطواف لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولو بيّنه لنقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه، ولكن ثبت في الصحيح: (أنّه لما طاف توضأ) وهذا وحده لا يدل على الوجوب، فإنه قد كان يتوضأ لكل صلاة وقد قال: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) فيتيمم لرد السلام”.
وقال ابن تيمية30: (وبالجملة: هل للطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد، وغيره: أحدهما: يشترط، كقول: مالك، والشافعي، وغيرهما. والثاني: لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، وغيره، وهذا القول هو الصواب، فإن المشرطين في الطواف كشروط الصلاة، ليس معهم حجة، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة)، وهذا لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم فيه حجة كما تقدم. والأدلة الشرعية تدل على خلاف ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم ، لم يوجب على الطائفين طهارة ولا اجتناب نجاسة، بل قال: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، والطواف ليس كذلك، والطواف لا يجب فيه ما يجب في الصلاة، ولا يحرم فيه ما يحرم في الصلاة، فبطل أن يكون مثلها، وقد ذكروا من القياس أنها عبادة متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلاً على ذلك).
القول الراجح
بناءً على الخلاف المتقدم في اشتراط الطهارة للطواف: فإن مذهب أصحاب القول الثالث؛ أن الطهارة ليست بشرط لصحة الطواف بل هي سنة، هو ما أراه راجحاً، وعليه فإن المرأة التي نزل عليها الحيض، ولم ينفعها دواء يوقف نزول الدم، أو كان استعمال هذا الدواء يضر بها، فتغتسل استحباباً، أو تغسل موضع الدم وتتوضأ استحباباً، وتتحفظ جيداً وتطوف ولا شيء عليها إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أجل وأعلم
الحواشي - المنتقى شرح الموطأ.
- المجموع شرح المهذب.
- الإنصاف.
- رواه الترمذي، والبيهقي، والحاكم، وصححه ابن خزيمة.
- رواه الترمذي.
- مجموع الفتاوى، وانظر: إعلام الموقعين لابن القيم.
- متفق عليه.
- رَوَاهُ أَحْمَدُ ومُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
- متفق عليه.
- انظر في معناه في مجموع الفتاوى.
- متفق عليه .
- المنتقى شرح الموطأ للباجي.
- مجموع الفتاوى.
- بدائع الصنائع (2/129) .
- الفروع (3/501)، والإنصاف (1/223).
- اللباب في شرح الكتاب (1/100) .
- القواعد للندوي (380) .
- الإنصاف (1/223).
- سورة الحج ، آية (29) .
- المبسوط للسرخسي (4/38) .
- أضواء البيان (5/211- 213) .
- المجموع شرح المهذب (8/19) .
- الاستذكار (رقم 17221 4\174)، وفتح الباري (ص590) .
- المبسوط للسرخسي (4\38) .
- الفتاوى الكبرى (2/541- 546) ، ومجموع الفتاوى (26/218) .
- إعلام الموقعين (3/29).
- الاستذكار (رقم 17222 4\174).
- الفروع (3/501) .
- مجموع الفتاوى (21/273) .
- انظر: الفتاوى الكبرى (2/541- 546)، ومجموع الفتاوى (26/218).