في بيتنا حاج!
في زمنٍ تَتزاحم فيه مواسم الترفيه، وتُشتَتُ فيه الأبصار بين شاشاتٍ لا تُغلق، ومواعيد لا تنتهي، يطلّ علينا موسم الحج ذلك الموسم المختلف الذي لا يُشبه شيئاً مما ألفته البشرية في مناسباتها، فالحج ليس طقساً سنوياً يُؤدّى ثم يُنسى، بل هو منهاج رباني، وتربية إلهية، وبناء إنساني عميق لو تدبّرت الأسر المسلمة شعائره لكان لها فيه غراس يُثمر في كل بيتٍ قادةً، وفي كل قلبٍ صلاحًا، وفي كل روحٍ طريقًا نحو الله.
الحج في ظاهره عبادة، وفي باطنه مدرسة؛ مدرسة تسير على خُطى إبراهيم، وتنهل من صبر هاجر، وتستظلُّ بعزم إسماعيل، فهل هناك موسم في السنة يمكن أن يجتمع فيه الأب والأم وأبناؤهم على طاولة واحدة ليتربوا معاً كما يفعل الحج؟ لا أظن، إنّه موسم لإعادة ترتيب الأولويات، وموسم لزرع المعاني الكبرى في القلوب الصغيرة، وموسم لتجديد العهد مع الله ثم مع النفس، ثم مع مشروع الإنسان الذي نحلم أن يكونه أبناؤنا.
في أيام الحج، يتوقف الزمان عن عاداته، وتُعطَّل البروتوكولات، ويخرج الإنسان من زينته ليلبس «إحرامًا» لا يُفرِّق بين غني وفقير، ولا بين مديرٍ وسائق، ولا بين وزيرٍ وخادم، ولعلها أول دروس الحج التربوية: أنك في الأصل عبد، مجرد عبد، وهذه تربية لو فُهمت في البيت، لغرسنا في قلوب الأبناء قيمة التواضع، وعظمة التجرد، وسرّ الإخلاص.
ثم تأتي شعيرة الطواف سبعة أشواط يدور فيها القلب قبل القدم حول بيت الله، ذلك البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بيديه، بيت الطاعة والخضوع، وبيت الذكر والدموع، وهنا يمكن للأب أن يسأل أبناءه: لِمَ نطوف؟ ما معنى أن ندور في دوائر سبع بلا كلل؟ فيكون الجواب: إنها رمزية الانتماء لدائرة الطاعة، والولاء للمطلق، والانضباط في التكرار، حتى يتحول الطواف من طقس إلى طبع، ومن عبادة إلى عادة نفسية في الاستقامة والانضباط.
وفي المسعى، نتعلّم درس الصبر والمثابرة من امرأةٍ سعت بين جبلين لتطلب لرضيعها الماء فأصبح هذا السعي رمزًا يُكرَّر إلى قيام الساعة، وهنا يأتي حديث التربية: ما الذي جعل الله يُخلّد خطوات أمٍّ بسيطة كهاجر؟ إنه الصدق في الطلب، والإخلاص في السعي، والثقة في الوعد، والثبات مع الله حين لا يكون معك أحد، هذه القصة لو حكتها الأم لابنتها ليلة عرفة، لتعلمت تلك البنت معنى أن تكون امرأة تصنع التاريخ بصبرها، لا بزيف مظهرها.
ثم في عرفة، حيث يلتقي الحجيج في ساحةٍ واحدة، يرفعون الأيادي والدعوات، وتهطل الرحمة كالغيث، هناك تتجلى صورة الأمة بكل تنوعها واختلافها ولغاتها، لكنها تحت راية واحدة: «لبيك اللهم لبيك»، هنا يبدأ الدرس الأكبر: نحن أمة واحدة أمة لا يجمعها اللون ولا الجغرافيا ولا السياسة، بل يجمعها الرب الواحد والقبلة الواحدة والمصير الواحد، فليكن هذا اليوم؛ يوم عرفة، يومًا سنويًا تجتمع فيه الأسرة تتذاكر ما صنعه إبراهيم، وما بناه المسلمون، وما يجب أن تبنيه هذه الأسرة من مشاريع خير ونماء في محيطها.
أما الجمرات، فرميٌ رمزيّ للشيطان لكنه في الحقيقة رميٌ لكل ضعفٍ في النفس، ولكل ترددٍ عن الطاعة، ولكل رغبةٍ في التراجع عن مشروع الإصلاح، فليكن في بيتنا ركنٌ مجازي اسمه «جمرة يومية» نرمي فيها، ونحن مجتمعون كأسرة، ما أفسد نفوسنا في أيامنا الماضية: خصاماً، أو كذباً، أو تقصيراً في الصلاة، أو تهاونًا في حفظ الأمانة.
الحج ليس موسماً للسفر فقط، بل هو موسم لتعليم الأبناء أن الدين ليس مجموعة طقوس بل مشروع حياة، وأن العبودية لله لا تقتصر على المسجد، بل تمتد إلى السوق، والمدرسة، والموقف من الظالم، والموقف من قضايا الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين، التي علّمنا الحج أنها ما زالت في القلب، رغم صمت المنابر، وخذلان المواقف.
أيها الآباء.. أيها المربّون..
لا تتركوا الحج يمرّ كما مرّت كثير من المناسبات، اجعلوه مشروعًا تربويًا سنويًا في بيوتكم، اجعلوا كل يوم من أيامه درسًا، وكل شعيرةٍ فيه محورًا للحوار، فربّما كان في بيتكم «حاج صغير» تخرج منه أمة بأكملها كما خرج من إبراهيم وهاجر أمة ما زالت إلى اليوم تقول: «لبيك اللهم لبيك».
عثمان الثويني