«السبع» تفضح الأوروبيين: عجز ثابت أمام صلف واشنطن
لندن | تحت شعار «التعاون من أجل عالم أكثر أمناً»، عقدت مجموعة الدول الغربية السبع الكبرى (G7) قمّتها الحادية والخمسين، أول أمس، في منتجع «كاناناسكيس» وسط جبال الروكي الكندية. لكنّ الانحياز الأميركي الكلّي إلى إسرائيل، والتوتّرات بين الفرقاء عبر جانبَي الأطلسي، كما مخاوف العديد من الدول من تحوّل النزاع الإسرائيلي – الإيراني إلى حرب إقليمية كبرى، كلّ ذلك أبعد القمّة تماماً عن شعارها، ليصبح: إمبراطورية أميركية متفلّتة، وعالم أكثر انقساماً، وعجز ظاهر لِما تبقّى من النظام الدولي الليبرالي عن احتواء أزمات العالم المتلاحقة.
وكما كان متوقّعاً، فإن العدوان الإسرائيلي على إيران سيطر على الحدث الذي أُريد له تعميق وحدة الغرب تجاه مسألة الحرب الأوكرانية، وكسْر حدّة التطرّف في حرب التعرفات الجمركية التي أطلقها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضدّ شركاء بلاده التجاريين، وكذلك مناقشة قضايا من مثل الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والمعادن النادرة. لكنّ ترامب اختار أن يغادر القمّة باكراً، مساء الإثنين، لأن «ما يجري في الشرق الأوسط» يستدعي عودته الفورية إلى واشنطن، بعدما دعا الإيرانيين، عبر حسابه على تطبيق «تروث سوشال»، أولاً إلى «إخلاء طهران فوراً»، وثمّ لاحقاً إلى «الاستسلام غير المشروط»، ما أثار تكهّنات عن تدخّل عسكري أميركي يبدو وشيكاً إلى جانب إسرائيل.
وسرعان ما ظهرت الخلافات حول صيغة البيان الختامي بين مواقف قادة الدول الأعضاء – وهم إلى الولايات المتحدة، كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان -، بعدما حاول الأوروبيون تضمين البيان دعوة إلى التهدئة بين إسرائيل وإيران، والعودة إلى الحلول الدبلوماسية لحلّ عقدة المشروع النووي الإيراني.
غير أن الرئيس الأميركي رفض التوقيع على الصيغة الآنفة، ما حدا برئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، إلى تقديم صياغة منحازة، تضمّنت تكرار الدعم لأمن إسرائيل، وحقّها في الدفاع عن نفسها، والتأكيد أن إيران لا يمكنها حيازة سلاح نووي، مع دعوة خجولة للأطراف إلى «خفض التصعيد». وعلى هامش القمّة، استمر ترامب في ترديد لازمته عن كون «إيران ليست في صدد كسب هذه الحرب»، وحثّها على التفاوض – أي القبول بإنهاء مشروعها النووي -، مضيفاً: «كان عليهم توقيع الاتفاق النووي الذي عرضته عليهم».
وسرق ترامب الأضواء في بداية القمّة، بعدما قال إن طرد روسيا من المجموعة التي كانت تُعرف بـ»مجموعة الثماني»، عام 2014، بعد ضمّها شبه جزيرة القرم، كان «خطأ كبيراً»، مشيراً إلى أنه وحده مَن يستطيع التواصل مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قائلاً: «بوتين يتحدّث إليّ، لا يتحدّث إلى أحد غيري… لأنه شعر بالإهانة حين طُرد من المجموعة»، فيما رأى أن روسيا لم تكن لتغزو أوكرانيا لو بقيت عضواً. كذلك، أعلن أنه لا يعارض ضمّ الصين إلى المجموعة، واصفاً الأمر بـ»الفكرة غير السيئة إطلاقاً»، ما فتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل «G7» التي بُنيت أصلاً على أسس الديمقراطية الليبرالية، وتوحيد المواقف الغربية تجاه العالم.
ستُسجّل «كاناناسكيس 2025»، من دون شكّ، كواحدة من أكثر القمم فشلاً وتناقضاً في تاريخ المجموعة
ووسط انشغال القادة بالحرب المستجدّة في الشرق الأوسط، تراجعت أولوية الملف الأوكراني، على الرغم من حضور الرئيس فولوديمير زيلينسكي، إلى القمّة. وتباهى ترامب بعلاقته مع بوتين، مقلّلاً من أهمية الضغط على موسكو، في ما أربك الزعماء الأوروبيين الذين سعوا لتشديد العقوبات عليها. ووفق مصادر دبلوماسية، لم تنجح محاولات الرئيس الأوكراني في حشد موقف موحّد يعزّز موقع بلاده التفاوضي.
وفي لحظة صادمة، انسحب ترامب من القمّة قبل لقاء مخطّط له مع رئيس الوزراء الأسترالي، أنطوني ألبانيزي، ما ألغى محادثات حيوية في شأن صفقة الغواصات النووية الثلاثية التي تجمع البلدين وبريطانيا. كذلك، فشلت القمّة في التوصّل إلى مقاربة موحّدة في مجالات عدّة، من مثل الهجرة والذكاء الاصطناعي، بسبب تحفّظات أميركية أساساً، فيما استبعد المنظّمون موضوعات كانت تُشكّل صلب أجندات القمم السابقة، كالتغيّر المناخي ومكافحة الفقر، إلى المساواة الجندرية وحقوق المثليين، وذلك لتجنّب استفزاز الرئيس الأميركي، وتفادياً لتكرار سيناريو قمّة 2018 (التي عُقدت في كندا أيضاً)، حين انسحب الوفد الأميركي من دون الموافقة على البيان الختامي.
على أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لم يُخفِ خيبته من مغادرة ترامب السريعة. لكنه قال للصحافة إن وراء تلك المغادرة «عرضاً طُرح لبدء هدنة وفتح قنوات حوار أوسع» – على الرغم من إقراره بأن فرص نجاح ذلك «مرهونة بإرادة الطرفين الإيراني والإسرائيلي» -، ما أوحى بأن الرئيس الأميركي يعمل خلف الكواليس على إنجاز صفقة. لكنّ تلك التصريحات قوبلت بسخرية علنية من جانب ترامب، الذي كتب على «تروث سوشال»: «ماكرون لا يعرف لماذا غادرت القمّة، وهو دائماً ما يُخطئ. الأمر أكبر بكثير من وقف إطلاق نار».
أمّا المستشار الألماني، فريدريك ميرتس، فقد حاول قيادة موقف أوروبي موحّد خلال لقاء غير رسمي عُقد مساء الأحد لتنسيق المواقف مع قادة بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، وتمّ التوافق خلاله على ضرورة منع تفاقم الحرب بين إسرائيل وإيران إلى مستوى إقليمي يهدّد الملاحة العالمية وسوق الطاقة. إلا أن افتقار القادة الأوروبيين إلى أدوات ضغط حقيقية على إسرائيل، ناهيك عن إيران، جعل هذه المداولات أقرب إلى جلسة تأمّل، أكثر منها تخطيطاً استراتيجياً قبل وصول ترامب. وأشار رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، إلى «الإجماع داخل مجموعة السبع حول ضرورة خفض التصعيد»، لكن من دون تقديم آليات واضحة، ولا سيما بعدما فقدت طهران الثقة بالثلاثي الأوروبي برلين – باريس – لندن، كوسيط نزيه.
أيضاً، حضر رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، القمّة كضيف شرف، للمرّة السادسة على التوالي، في إشارة إلى الأهمية المتزايدة لدور بلاده على المسرح العالمي. وفي كلمته، شدّد على أهمية «الاستقرار في الطاقة، والتحوّل الرقمي الآمن، والتوازن في الأمن الإقليمي»، لكنه تفادى ذكر الحرب بشكل مباشر، مراعياً علاقات بلاده المعقّدة مع كلّ من إسرائيل وإيران.
أمّا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، فقد حضر جلسة حول «أمن الطاقة»، لكنه التقى بعدد من القادة على هامش القمّة لمناقشة «الحاجة إلى ضبط النفس وتفعيل القانون الدولي في شأن النزاع الإسرائيلي – الإيراني»، وفق ما ورد في بيان للمنظمة. ومع ذلك، غاب صوت الأمم المتحدة فعلياً عن التأثير في مجريات القمّة، في مشهد كرّس هشاشة النظام الدولي المتعدّد الأطراف أمام صلف الولايات المتحدة.
في الاقتصاد، أصرّ ترامب على أن الرسوم الجمركية «أداة ضرورية» لحماية الصناعة الأميركية. وعلى الرغم من تصديقه على اتفاق مع بريطانيا لخفض بعض الحواجز التجارية، فإن تصريحاته تجاه كندا وأوروبا كانت تصعيدية. كما ناقش القادة مستقبل سلاسل الإمداد من المعادن النادرة والذكاء الاصطناعي، من دون التوصّل إلى تفاهم في شأنها في البيان الختامي. وبحسب دبلوماسي أوروبي، فإن «الولايات المتحدة لم توافق على أيّ من المسوّدات، ما يجعل من الصعب التحدّث عن أيّ نتائج ملموسة للقمّة».
وستُسجل «كاناناسكيس 2025»، من دون شكّ، كواحدة من أكثر القمم فشلاً وتناقضاً في تاريخ المجموعة. فلم تنجح في بناء موقف موحّد تجاه أخطر صراعَين يواجهان العالم: لا الحرب الأوكرانية المستمرة منذ سنوات، ولا حرب الشرق الأوسط الأحدث، ما يكشف عن عمق المأزق الذي يواجهه النظام العالمي الليبرالي ما بين نزعة ترامب الانعزالية – البراغماتية، وتصاعُد النزاعات الجيوسياسية، وفقدان قوى أوروبا القديمة أيّ وزن استراتيجي، لتبدو المجموعة أقرب إلى نادٍ مأزوم، منها إلى محور قيادة عالمية.
سعيد محمد