الارتباك الأميركي الإسرائيلي حول العودة للحرب
ناصر قنديل
القناعة الأميركيّة راسخة باستحالة المضي قدماً باتفاق الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو غداة عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول، بعدما تم اختبار ثلاثيّة الهجوم البري لقوات الاحتلال بهدف ضرب قيادة وبنية قوى المقاومة وتحرير المحتجزين لديها، والقصف الشامل لسكان غزة بهدف التهجير والضغط على قيادة المقاومة، واستقدام حاملات الطائرات والمدمّرات الأميركية إلى المنطقة بهدف ردع قوى ودول محور المقاومة عن الدخول على خط الحرب وإسناد المقاومة في غزة. وجاءت حصيلة الاختبار فشلاً ذريعاً، وخلال خمسين يوماً من الحرب بات أكيداً أن بنية قوى المقاومة وقيادتها وإمساكها بملف المحتجزين لا زالت على حالها، وأن ما خسره جيش الاحتلال من جنوده وضباطه وآلياته ومهابته يزيد قيمة وأهمية على ما كسبه من سيطرة محدودة وهامشية على أطراف قطاع غزة، بينما لم يترتّب على عمليات القصف المدمّر والقاتل وما نتج عنها من مجازر أي استجابة شعبية لصالح دعوات التهجير ولا لدعوات الانقلاب على المقاومة. وظهر سكان غزة متماسكين مع مقاومتهم ومتمسكين بها، بينما ظهرت المقاومة ثابتة على مواقفها، بل إن ما نتج عن هذا القتل والتدمير من ردود أفعال هائلة التأثير في الشارع الغربي والأميركي خصوصاً، شكلت بذاتها سبباً كافياً للمطالبة باستدارة أميركية كاملة. أما فلسفة ردع قوى المقاومة فقد أصيبت هي الأخرى بالفشل الذريع، فلم تنفع التهديدات في ثني حزب الله عن إشعال جبهة الجنوب وتصعيدها كماً ونوعاً وأفقياً وعمقاً، ولا في تجنيب القواعد الأميركية عمليات الاستهداف في سورية والعراق، ولا في تفادي الإحراج الكبير الناتج عن عمليات أنصار الله في البحر الأحمر، وتحدّي ثوابت الاستراتيجية الأميركية العسكرية، وبناءً على كل ذلك قرّرت واشنطن الانتقال من الدعوة للحرب وقيادتها، إلى إدارة حال اللاحرب والسعي لتثبيتها وفتحها على فرضيّات السياسة.
مشكلة قيادة كيان الاحتلال، ليست في قناعتها بالقدرة على الفوز بالحرب البرية، ولا بجدوى الرهان على مواصلة حملات القتل والتدمير، ولا في الرهان على فعالية حضور الحاملات والمدمرات، بل في كون قيادة الكيان تدرك معنى التوقف عن الحرب، وتعلم أنها نصر كامل لقوى المقاومة، وهي لا تملك رؤية لمرحلة إدارة اللاحرب التي تتبنّاها واشنطن، بل تثق أن اللاحرب ربما تكون وصفة قوى المقاومة التي لا ترغب بالعودة الفورية للحرب، ولا بالخروج الفوري منها، بل بهدوء فاتر يتيح لها احتواء وهضم انتصاراتها، سواء في السابع من تشرين أو في حرب الخمسين يوماً، والاستعداد بالتنسيق مع حلفائها لنقلة جديدة تُخرج الاحتلال من النقاط التي دخل اليها في غزة، كي تفاوض على معادلات السياسة من موقع الإمساك الواثق بجغرافيا غزة وبزمام المبادرة في الحرب.
حالة اللاحرب بالنسبة للكيان تحت سقف الأولوية للتهدئة حتى إنهاء ملف الأسرى، عن طريق التبادل، يعني إعلان هزيمة كاملة بشروط أعلنتها قيادة حماس من اليوم الأول وهزأ بها قادة الكيان، يوم أعلنوا أنهم ذاهبون لحرب لن تبقى بعدها حماس، ولن يبقى بعدها بحوزتهم محتجز واحد أو أسير واحد؛ لكن مشكلة قيادة الكيان، أنها لا تستطيع خوض حرب دون أميركا، لا سياسياً وهي في أصعب أيام العزلة دولياً، وقد خسرت شوارع الغرب وبعض حكوماته، ولم يبق معها في أميركا إلا إدارة بايدن، ولا مالياً وهي عاجزة عن تمويل ما مضى من الحرب دون معونة أميركية، ولا تسليحياً، وهذا هو الأهم، حيث صواريخ الباتريوت وصواريخ الطائرات وقذائف المدفعية تصل تباعاً، وقد لا تصل في حرب لا توافق عليها واشنطن.
واشنطن لا تستطيع بالمقابل ترك الكيان ينهزم دون حرب، أو أن يفرض حرباً يخسرها ويتسبّب لواشنطن بالخسارة معه، لذلك قال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن في أول مؤتمر صحافي يعقده منفرداً في تل أبيب، أنه أبلغ نتنياهو ما يجب على حكومته فعله إن أرادت مواصلة الحرب، وأوضح له المخاطر، وأكد له أولوية واشنطن لجهة مواصلة التهدئة حتى إنهاء ملف الأسرى والمحتجزين، ولذلك خرج جون كيربي الناطق بلسان مجلس الأمن القومي الأميركي من واشنطن يتحدث عن الحرب في أوكرانيا في إشارة واضحة الى العودة الى ما قبل السابع من تشرين الأول، وأولويّة الحرب في أوكرانيا، وليس الحرب في غزة، سواء في السياسة أو في الإعلام أو في إرسال الذخائر والسلاح.
في نهاية التجاذب سوف تنضبط قيادة الكيان بما تريده واشنطن، وهي باتت أكثر من أي وقت فاقدة هوامش الاستقلال، وأقرب إلى حال الوقوع تحت الانتداب الأميركي.