النبي ﷺ.. الشهيد
د. أحمد ناجي
يتساءل البعض عن صحة هذه العبارة: «والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد» التي يبدأ بها أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، ويقول هؤلاء: هل مات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً؟
وللرد على هذا التساؤل نقول:
الشاة المسمومة
على مدار التاريخ واليهود في عمومهم هم أهل غدر، ونقض للعهود، وقتل للأنبياء، ومنذ ظهور الإسلام وهم يكيدون له ولنبيه صلى الله عليه وسلم حقداً وحسداً من عند أنفسهم.
ومعلوم عن اليهود أنهم أهل دس ومؤامرات؛ ومن ذلك أنهم لما رأوا نصر الله تعالى للمؤمنين في خيبر، تآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا تسميمه، فأهدوا إليه شاة مسمومة لمحاولة قتله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فُتِحت خيبر، أُهْدِيَت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سُم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود»، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادِقيَّ عنه؟»، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟»، قالوا: أبونا فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم، بل أبوكم فلان»، فقالوا: صدقت وبررت، فقال: «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟»، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهل النار؟»، فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً»، ثم قال لهم: «فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟»، قالوا: نعم، فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟»، فقالوا: نعم، فقال: «ما حملكم على ذلك؟»، فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك(1).
وقال ابن هشام في كتاب «السيرة النبوية»: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، شاة مصلية، وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمَّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بِشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم»، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: «ما حملكِ على ذلك؟»، قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلتُ: إن كان مَلِكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيُخْبر، قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر من أكلته التي أكل(2).
وفي رواية أخرى، أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك قال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك، أو قال عليَّ»، فقالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا»، قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وأجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز عنها أولاً، فلما مات بِشر قتلها به قصاصاً.
وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المرأة اليهودية التي حاولت قتله بالسم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم لنفسه، كما قالت عائشة رضي الله عنها في وصفه: «مَا خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى»(4).
لقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه كثير الأذى، وعظيم الشدة والمكائد، منذ جهر بدعوته، ولكن الله تبارك وتعالى حفظه وعصمه من الناس، وقصة الشاة المسمومة صورة من صور حفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، تصديقاً لوعده سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67).
قال النووي في شرحه للحديث: فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؛ وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته مِن السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منها له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الذراع تخبرني أنها مسمومة»(5).
ظهور أثر السم على النبي صلى الله عليه وسلم عند موته
تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالسُّم الذي دسته له هذه المرأة ثابت، كما دل على ذلك حديث: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني في كل عام، حتى كان هذا أوان قطع أبهري»(6).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم»(7).
وقد ورد أن أم مُبَشِّرٍ، وهي أم بشر بن البراء الذي أكل السُّم مع الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر، قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، ما تتهم بنفسك، فإني لا أتهم بابني إلا الطعام الذي أكله معك بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا لا أتهم غيرها، هذا أوان انقطاع أبهري»(8).
استشهاد النبي صلى الله عليه وسلم
واستناداً إلى ما سبق، فقد ذهب كثير من العلماء إلى أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً لظهور أثر السُّم الذي تناوله عند موته صلى الله عليه وسلم، وثبت في السُّنَّة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟»، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، قالَ: «إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذنْ لَقَلِيلٌ»، قالوا: فمَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: «مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في الطَّاعُونِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فَهو شَهِيدٌ»، قالَ ابنُ مِقْسَمٍ: أشْهَدُ علَى أبِيكَ في هذا الحَديثِ أنَّه قالَ: «والْغَرِيقُ شَهِيدٌ»، وفي روايةٍ: قالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ مِقْسَمٍ: أشْهَدُ علَى أخِيكَ أنَّه زادَ في هذا الحَديثِ: «ومَن غَرِقَ فَهو شَهِيدٌ»(9).
_________________________
(1) صحيح البخاري (4249).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 337).
(3) أخرجه البخاري (2617)، ومسلم (2190) باختلاف يسير.
(4) أخرجه البخاري (6126)، ومسلم (2327).
(5) شرح الإمام النووي (15/ 183).
(6) رواه ابن السني، وأبو نعيم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5629).
(7) صحيح البخاري (4428).
(8) سنن أبي داود (4513).
(9) أخرجه مسلم (1915) عن أبي هريرة رضي الله عنه.