عجز المؤسسات لا يحول دون دفاع الشعب عن سيادته: في صلاحية إعلان الحرب دستورياً
إثر الاعتداءات الإسرائيلية في الجنوب، وما يترتب عليها من أعمال ميدانية أو عسكرية، يحتدم السجال الدستوري حول صلاحيّة إعلان الحرب في لبنان، بعدما كان التقليد قد استقرّ على إناطة هذه المسألة بمجلس النواب، قبل التعديل الدستوري الصادر عام 1990 الذي أورد «الحرب والسلم» من بين المواضيع الأساسية في الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور، من دون أن يحدّد المنهجية الواجب اتباعها بشأن إعلان الحرب أو تنفيذها وقيادتها. ما أخضع هذا الأمر إلى التأويل والاجتهاد، وإن كان من الممكن، برأينا، وضع هذه المسألة الخلافية في سياق دستوريّ معيّن، يتجلّى بالنقاط الآتية:أولاً: لما كانت التجربة الفرنسيّة، تحديداً تجربة الجمهورية الثالثة، مصدراً لازماً للحياة الدستوريّة في لبنان، فإنّ المادة 9 من القانون الدستوريّ الفرنسي الصادر عام 1875، نصّت على أن «رئيس الجمهورية لا يمكنه إعلان الحرب إلا بعد موافقة البرلمان». وهذا النصّ، كما يظهر جلياً، يميّز بين إعلان الحرب والتصديق عليها. فالأول من صلاحية السلطة التنفيذية، فيما الثاني من صلاحية البرلمان.
ولعلّ إناطة التصديق على قرار الحرب بالبرلمان يعود إلى أن الحرب مسألة مصيرية تتعلّق بحياة الأمة وديمومتها، ومن الطبيعي أن يتولى ممثل الأمة – البرلمان – هذه الصلاحية، على أن تمارس السلطة التنفيذية مهمة إعلانها بمرسوم. ذلك أنّ الدستور يحدّد الخطوط العريضة للسلطات، وتبقى للقوانين حدود تطبيقها وتنظيمها، وعلى ذلك يُعهد إلى قوانين الطوارئ والدفاع في فرنسا – كما لبنان – إيكال إعلان المسائل الإجرائية المختصة بالدفاع والطوارئ والأمن إلى الحكومة، بدليل أن المواد 2 و3 و4 من قانون الدفاع الوطني في لبنان، تُعطي الحكومة صلاحية إعلان وضعية قانونيّة بمرسوم، في كلّ مرّة يتعرّض الوطن إلى خطر داهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلّحة أو عمل ضارّ بسلامة الدولة أو مصالحها. فتارةً تقرّر الحكومة إعلان حالة التأهب الكلي أو الجزئي، وتارةً أخرى تقرّر إعلان حالة الطوارئ وفقاً لمعايير معيّنة لحظها قانون الدفاع الوطني، وإن كان من الواجب، سنداً لأحكام المرسوم الاشتراعي رقم 52/1967 انعقاد البرلمان في مهلة ثمانية أيام للنظر في هذه التدابير. ما يعني أن المشرّع اللبناني، في قانون الدفاع والمرسوم الاشتراعي الرقم 52، سمح للحكومة باتخاذ صلاحية مواجهة الحرب وإعلان الأوضاع المترتبة عنها، وإن لم يشأ، في هذه النصوص، أن يعطيها وصف إعلان الحرب، لكنّها كافية للاستنتاج أنه في مقدور الحكومة إعلان الحرب لاعتبارين:
الأول: منح قانون الدفاع الوطني، وكذلك أحكام المرسوم الاشتراعي الرقم 52، الحكومة، واستطراداً قيادة الجيش، صلاحية اتخاذ جميع الصلاحيات للحدّ من الخطر المشكو منه، أي في كلّ ما تقتضيه الحرب من وسائل وتدابير.
الثاني: إشارة الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور إلى صلاحية الحكومة في الموافقة على «الحرب والسلم» من بين المواضيع الأساسية.
وما دام قرار الحرب من المسائل المصيرية على الأمة والكيان، فإن صلاحية التصديق عليه فور تطبيق أحكام المادة 22 من الدستور يعود إلى مجلس الشيوخ لا إلى مجلس النواب، بنصّها: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ… تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
كما أنّ العلاقات الدولية تُترجم، في معظم الأحيان، عبر المعاهدات الدولية. فعقد السلم بين لبنان ودولة أخرى، والذي يُبرم عادةً بمعاهدة، يبدأ بالمفاوضات – وهو اختصاص عائد إلى الحكومة ورئيس الجمهورية – وينتهي بالتصديق عبر مجلس النواب حينما تمكّنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة بموجب المادة 52. وقياساً على ذلك، فأيّ تهديد في العلاقات الدولية، وتحديداً العلاقة بين لبنان وسائر الكيانات الأجنبية، يعني أن تهديداً قد وقع على مصلحة وسلامة الدولة، وهو أمرٌ يستدعي نهوض صلاحية مجلس النواب، قبل استحداث مجلس الشيوخ، في التصديق على أيّ خطوة من هذا القبيل، عدا عن أن الحرب – من منظار القانوني الدولي – حالة عدائية تحصل ضد سيادة الدولة التي يملكها، في الأساس، البرلمان، بأحد مجلسيه، كونه ممثلاً للشعب ووكيلاً عنه سنداً للفقرة «د» من مقدمة الدستور.
تفويض مجلس النواب – ممثل الأمة – للحكومات المتعاقبة بالموافقة على حق المقاومة في الدفاع عن لبنان يشكّل عرفاً دستورياً لا لبس فيه
يُستشفّ من كلّ ما ذُكر، أن قرار إعلان الحرب من صلاحية الحكومة، والتصديق على هذا القرار من اختصاص مجلس النواب، وتالياً مجلس الشيوخ حصراً فور استحداثه، إذ تجوز، عملاً بالقياس، إثارة اطلاعه أو قبوله على أيّ موضوع يطال مصلحة وسلامة الدولة.
ثانياً: من المقرّر، كما أشرنا، أن قرار الحرب يعود إلى المؤسسات الدستورية التي تمارس، وكالةً، مهمة تمثيل الأصيل، وهو الشعب، وبالتالي التعبير عن السيادة، إلا أنه يبقى الأصيل صاحب السيادة وإن جرت ممارستها من قبل السلطات، باعتبار أن الفقرة «د» من مقدمة الدستور قد نصّت على أن «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية»، الأمر الذي يفيد أن هناك تمييزاً، وفقاً لمنطوق النص، بين صاحب السيادة (الشعب) ومن يمارسها (المؤسسات الدستوريّة)، ما يعني أن تقاعس أو عجز هذه المؤسسات (الوكيل) في الدفاع عن السيادة لا يمنع الشعب (الأصيل)، وهو صاحب السيادة أصلاً في الدفاع عن سيادته، شريطة أن يحظى هذا الدفاع بشرعية صادرة عن السلطة كركن آخر من أركان الدولة، وانسجاماً مع منطق السلطة المفوّضة والسامية في الدولة الحديثة، حيث تأتي سلطة الدولة فوق سلطة الأفراد والجماعات.
وخير مصداق على هذه الشرعية هو المقاومة في لبنان، كونها أصبحت في صلب الانتظام الدستوري، للدلالات الآتية:
الأولى: لمّا كان العرف الدستوريّ، كمصدر هام من مصادر القاعدة الحقوقية، ينشأ عن اعتياد الهيئة الحاكمة على سلوك معيّن بصفة متكررة ولمدة طويلة مع الشعور بالقوة الإلزامية لهذا السلوك، فإنّ تفويض مجلس النواب – ممثل الأمة – للحكومات المتعاقبة بالموافقة على حق المقاومة في الدفاع عن لبنان يشكّل عرفاً دستورياً لا لبس فيه.
الثانية: لمّا كان لبنان قد التزم بالمواثيق الدولية والإقليمية وفقاً للفقرة «ب» من مقدمة الدستور، فإنّ انضمام لبنان، عام 2008، إلى الميثاق العربي لحقوق الإنسان بموجب القانون الرقم 1 بنصّه، في المادة الثانية على أن «للشعوب كافة الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي»، يعني أن شرعية المقاومة صارت في خضم التشريع اللبناني.
الثالثة: حق المقاومة في مواجهة العدوان يجد أساسه في المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بقولها: «لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها»، وهذا الحق جرى تكريسه في قرارات أممية مختلفة ومنها القرار الرقم 3101/1972، الصادر عن الجمعية العامة، الذي يؤكد حق الشعوب الخاضعة للاحتلال بالتحرر منه بالوسائل كافة، وغيره من القرارات التي كرّست حق الشعوب في مقاومة الاحتلال وبالتالي تقرير مصيرها بنفسها من دون قيد، وهذه العمومية أو الإطلاقية الممنوحة للشعوب وليس للدول فقط، تعكس شرعية مواجهة الشعب اللبناني للاعتداءات الإسرائيلية وتمنح المقاومة، استطراداً، الحق في الدفاع عن لبنان واسترجاع أراضيه…
جرّاء ما تقدّم، يتبيّن لنا أن قرار الحرب، في الأصل، يعود إلى المؤسسات الدستورية، لكن امتناع هذه المؤسسات عن مواجهة الحرب الخارجية لا يحجب إمكانية المقاومة في الدفاع عن لبنان عند وقوع أيّ اعتداء على أيّ جزء من الأراضي اللبنانية، كما لا يمنع صدور مرسوم إعلان الحرب للعمل بما أشار إليه قانون الدفاع الوطني وأحكام المرسوم الاشتراعي الرقم 52، احتراماً لمبدأ المشروعية الذي لا يجوز تخطيه إلا تحت وطأة نظرية «العجلة القصوى» أو نظرية «الظروف الاستثنائية»، ولترتيب النتائج القانونية والواقعية الجديدة على الانتظام العام في حياة الدولة وسائر الكيانات المعنوية، وإنهاضاً لمهام القوات المسلّحة التي وُجدت، أساساً، لهذه الظروف وسواها.
جهاد إسماعيل
* باحث دستوري وأستاذ جامعي
في القانون العام
المصدر:”الأخبار”