مقالات

كيف تنسف حُكومات ممرّ “دبي ـ حيفا” التّطبيعي كُلّ تضحيات الأشقّاء في اليمن لنُصرَة المُحاصَرين والمذبوحين والمُجوّعين في قطاع غزّة والضفّة؟ ولماذا نلوم الأردن أكثر من غيره في هذا المِضمار؟ وبأيّ حَقٍّ يُعوّضون دولة الاحتِلال عن خسائِرها ويُكافئونها بكسْرِ الحِصارِ عنها؟

عبد الباري عطوان

في الوقتِ الذي يدفعُ فيه الأشقّاء في اليمن ثمنًا باهظًا ماديًّا وبشريًّا من جرّاء الغارات الجويّة الأمريكيّة والبريطانيّة التي تستهدف العديد من مُدنهم وبُناهم التحتيّة، لإغلاقهم البحر الأحمر وباب المندب في وجْهِ السّفن الإسرائيليّة، تتطوّع دُول عربيّة مِثل الإمارات والأردن والمملكة العربيّة السعوديّة لتعويض الخسائر الإسرائيليّة النّاجمة عن هذا الإغلاق بفتحِ “ممرّ دبيّ حيفا” البرّي لإيصال كُل ما تحتاجه دولة الاحتِلال من أغذيةٍ طازجةٍ وبضائع إلكترونيّة أُخرى، وبأسعارٍ رخيصةٍ أقلّ من رُبعِ تكاليف نقلها عبر باب المندب وقناة السويس أو خليج العقبة.

بينما تلتزم الدّول التي يمرّ هذا الممر عبر أراضيها الصّمت المُطبِق، والبحث عن أعذارٍ وتبريراتٍ لهذه الخطوة التطبيعيّة المُهينة والخَطِرة، خاصّةً بسبب تزامُنها مع حرب الإبادة والتّطهير العِرقي في قطاع غزة، تنشر الصّحف وتبثّ القنوات التلفزيونيّة الإسرائيليّة العديد من التّقارير المُصوّرة التي ترصد مُرور مِئات الشّاحنات عبر هذا الخط، وتَرفُع الغِطاء عمّا يُحاولون إخفاءه عن شعوبهم

القناة 13 الإسرائيليّة أكّدت قبل عدّة أيّام أن مئات الشّاحنات المُحمّلة بالبضائع والأطعمة الطّازجة، تتوجّه من الإمارات عبر دولتيّ الممر (السعوديّة والأردن) إلى دولة الاحتِلال ومُستَهلكيها، في مُشاركةٍ فِعليّةٍ، مُباشرةٍ أو غير مُباشرة، مع حربِ الإبادة والتّدمير وسَفْكِ الدّماء في القطاع.

السّلطات الأردنيّة التي ارتكبت إثْمَ نجدة دولة الاحتلال، بالسّماح، أو غضّ النّظر، عن تصدير إنتاج بعض مُزارعيها من الخضروات والفواكه في الغور إلى دولة الاحتِلال في ذروة حرب الإبادة على قطاع غزة، تحجّجت، وعلى لسانِ بعض المسؤولين فيها، بأنّها لا تملك الحقّ في منْعِ تجارة التّرانزيت عبر أراضيها، لالتِزامها بالاتّفاقات المُوقّعة في هذا الصّدد، وخوفًا من أن تُعاملها الدّول المُتضرّرة بالمِثل، في إشارةٍ إلى السعوديّة والإمارات، فمتَى التزمت إسرائيل بالاتّفاقات، واحترمت جميع القوانين والمُعاهدات الأُخرى، وعلى رأسِها وادي عربة وأوسلو؟

المُؤلِم أنّ شركتين، إحداهما إماراتيّة (بيور ترانز) وإسرائيليّة (تراكنت) هُما اللّتان تُشرفان على إدارة هذا الممر، وتوفير الاحتِياجات الطّارئة للعدوّ الإسرائيلي، في تَحَدٍّ واستِهتارٍ لدِماء وأرواح الشّهداء والأطفال والنّساء والمُسنّين في القطاع الذين يُدافعون عن كرامةِ هذه الأمّة وعقيدتها، والحِفاظ على هُويّة مُقدّساتها العربيّة والإسلاميّة في القدس المُحتلّة.

الهرولة لتوفير وُصول البضائع والأغذية إلى المُستوطنين الإسرائيليين وجيشهم يُعتبر مُشاركة مُباشرة في حرب الإبادة والتّجويع في قطاع غزة والضفّة الغربيّة، تمامًا مثلما تفعل السّلطات المِصريّة بعدم فتحها معبر رفح بالقُوّة، والسّماح بدُخول المُساعدات الإنسانيّة للقطاع، وفرض ضريبة تصل إلى خمسة آلاف دولار على كُلّ شاحنة، وتُفيد التّقارير الإخباريّة بوجود أكثر من ألفين وخمسمائة شاحنة تقف في طابورٍ طويل يمتدّ من العريش إلى معبر رفح (40 كيلومترًا).

كُنّا نتوقّع أن تُعامل الحُكومات العربيّة المُتورّطة في هذه الجريمة دولة الاحتِلال بالمِثل، أي إغلاق كُل المعابر المُؤدّية إليها، أيّ المُقاطعة الكاملة، ناهِيك عن قطع العلاقات، وإغلاق سفارات دولة الاحتِلال على أراضيها، تضامُنًا مع أهلنا في الضفّة والقطاع، وأن يربطوا على الأقل مُرور الشّاحنات عبر هذا الممر (دبي ـ حيفا) بشُروطِ رفع الحِصار وتدفّق المُساعدات لأكثر من مِليونيّ ونِصف المِليون إنسان عربي ومُسلم، ولكنّنا كُنّا مُخطِئين في هذا الاعتِقاد، فإذا كانَ استِشهاد أكثر من 30 ألفًا (ما زال الآلاف منهم تحت الرّكام) وإصابة حواليّ 70 ألفًا آخَرين، ودمار 86 بالمِئة من منازلِ غزة، لا يُحَرّك مشاعر أو ضمائر هذه الحُكومات، فماذا يُحرّكها؟

لا نُطالب الأردن، والإمارات، والسعوديّة، بوقفةِ عِزٍّ على غِرارِ أهلنا في اليمن، والتصدّي للسّفن الحربيّة الأمريكيّة والبريطانيّة التي تُحاول كسْر الحِصار على الكيان الإسرائيلي، وعدم المُطالبة هُنا يعود إلى معرفتنا بأنّها لن تستمع وستُغلِق آذانها، وإنّما نُطالبها بالاستِماع إلى شُعوبها التي تعيش حالةً من الغليان بسبب هذا “العجز” المُصطَنَع، وأن تحذو حذو دُول غير عربيّة، وغير إسلاميّة، مِثل جنوب إفريقيا، وبوليفيا، وتشيلي، وكولومبيا، وتقطع العلاقات كُلِّيًّا مع دولة الاحتِلال لا أن تَمُدّ لها حبْلَ الإنقاذ.

الأردن يعيش هذه الأيّام حالة غليان غير مسبوقة تتصاعد في أوساط أبنائه النّشامى، بسبب المذابح في صُفوف أهلهم في قطاع غزة والضفّة الغربيّة أوّلًا، وتزايُد الأنباء التي تتحدّث عن مُشاركة طائراته في قصفِ أهدافٍ في العُمُق العِراقي، جنبًا إلى جنب مع الطّائرات الأمريكيّة، انتقامًا لضرب المُقاومة الإسلاميّة العِراقيّة لقاعدةٍ أمريكيّةٍ في شِمال الأردن، ثانيًا، المشروع الصّهيوني يفقد كُلّ عوامل وجوده واستِمراره بفضلِ عاصفة “طُوفان الأقصى” التي أصابت “إسرائيل” في مقتل، وحرمتها من الأمن والاستِقرار وكلّفتها أكثر من 75 مِليار دولار حتّى الآن، ورحّلت أكثر من 500 ألف من مُستوطنيها، والمأمول أن تَصحُو  حُكومات، وقيادات الدّول العربيّة إلى هذه الحقيقة، وتُراهن على المُقاومة لا على دولة الاحتِلال التي أدانتها محكمة العدل الدوليّة بجرائم حرب الإبادة، فليكونوا في جُرأةِ وشجاعة أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وحُكّام دُول أمريكا اللّاتينيّة ومِئات الملايين في الغرب والشّرق والشّمال والجنوب الذين قاطُعوا هذا الكيان وتظاهروا ضدّه، وقطعوا العلاقات الدبلوماسيّة معه، وطردوا سُفراءه، فهل نَطلبُ المُستحيل؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *