ضوابط في مسألة تحرير المرأة بمفهومه الغربي
اسماء السيد خليل
لا تجد مصطلحًا مضللًا مثل مصطلح تحرير المرأة بمفهومه الغربي، الذي ساعد على وجوده قوى، محلية وعالمية، تناصر تلك الحرية المزعومة، وتريد فرضها على مجتمعاتنا التي تعاني –بالأساس- تراجعًا حضاريًّا وشعورًا بالهزيمة النفسية أمام من يحاول فرض هذا الفساد عليها.
وإزاء هذا الغزو الفكري، لا بد من التأكيد على أن المنهج الإلهي لا يعارض مسألة تحرير المرأة، لكن يريدها حريةً منضبطة كي لا تُنتهك حدود الله، خصوصًا أن الحرية بالمفهوم الغربي تحررت من كل قيد ديني أو أخلاقي أو سلوكي، وتركز على القشور دون اللبّ، ولا تحترم حقوق وحريات الآخرين، وتفضي إلى الصراع بين المرأة والرجل.
مضاعفات خطيرة
تهدف الحرية المعطاة للمرأة الغربية إلى الاعتراف بأن الأسرة ليست نظامًا فطريًّا، وأن الاتصال الحرّ بين الرجل والمرأة هو الأمر الطبيعي، ومن ثمّ من حق المرأة ممارسة رغبتها الجنسية دون الحاجة إلى الزواج؛ ولذا فإنها تنكر الدعوات الدينية التي تحضُّ على العفاف، وتدعو إلى إلغاء العقود المدنية في الزواج.
وقد أدى ذلك إلى وباء خلقي اجتاح العالم الغربي وكانت له آثاره الصحية؛ ففي فرنسا يُصاب 30 ألف نسمة بالزهري سنويًّا، وفي أمريكا يعالج في المستشفيات الرسمية 200 ألف مواطن -في المتوسط- بالمرض ذاته.
وقد أحدث التبرج والاختلاط مضاعفات خطيرة، حتى صوّر بول بيودر انهيار الأخلاق في فرنسا قائلًا: لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسية بين الأقارب في النسب، كالأب والبنت، والأخ والأخت في بعض الأقاليم الفرنسية، وفي النواحي المزدحمة في المدن!
حرية مدمّرة
بعد عقود من صكّ الحرية الذي حصلت عليه المرأة الغربية التي كانت فرحة به أشد الفرح، ظهر بوضوح زيف هذه الحرية ومساوئها، على المرأة والمجتمع على السواء، وأنها حرية مدمّرة بكل ما تعنيه كلمة الدمار.
ففي تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي حول أوضاع المرأة في أوروبا الغربية، الذي استغرق إعداده عامين ونصف العام، ورد فيه أن النساء يعانين الظلم، وأن معظمهن يشعرن بأنهن يجدن أنفسهن في سجن، فكم تعاني المرأة في الغرب من الحرمان والخوف! فحوادث الاغتصاب شائعة حتى من المحارم، وتتعرض للسلب والنهب والقتل فلا تجد من يحميها ويحفظها إلا قوانين بائدة، خروقاتها كثيرة.
ضياع نفسي
إن المرأة الأوروبية التي تعتبر الزواج قيدًا عليها يمنعها من ممارسة حريتها ويجعلها خادمة مقابل إطعامها، هي نفسها التي قبلت بالعمل في تجارة الجنس والدعارة، ورضيتْ بأن تنضم إلى ملايين من الضائعات اللاتي يحملن خارج نطاق الزواج، ثم ينتهي هذا الحمل بالإجهاض، وهذا ما جعل هذه الحرية صداعًا مزمنًا في رأس كل امرأة غربية ينغّص عليها أمر معاشها، حتى إن عشرة ملايين امرأة فرنسية يستشرن منجمات كل عام بسبب خوفهن من المستقبل وضياعهن النفسي، وفي أمريكا بلد الحريات هناك 240 امرأة تُضرب كل ساعة، وكل 5 سنوات يقتل العنفُ الأسري ما يعادل مجموع الأمريكيين الذين قُتلوا في حرب فيتنام!
امرأة تعيسة
جاهدت المرأة الغربية للحصول على حريتها، وكانت حرية كاملة شاملة، فهل سعدت بهذه الحرية؟ وهل أغنتها عن الرجل؟ وهل أشعرتها بالأمن وأزالت عنها المخاوف والقلق؟ في الحقيقة لم يحدث شيء من هذا كله، ولم يتحقق لها ما كانت تتمناه؛ لأنها -ببساطة- تناست فطرتها، بل تناست إنسانيتها، وأسلمت نفسها لأفكار قادتها إلى التعاسة والشقاء، تقول المؤلفة «دانيالي»: إن السعادة والتخلص من القلق والحيرة ممكن للمرأة المعاصرة بشرط أن تتخلى عن المقولات الرجعية التي تنادي بها الحركات النسوية الداعية إلى إشراك المرأة في كل مجال، أو بتلك المجالات التي تحثُّ على الحرية الجنسية التي قتلت المرأة وحوّلتها إلى كائن لا قيمة له في المجتمع.
الحرية المنضبطة
على الجانب الآخر؛ أباح الإسلام للمرأة أن تشارك في الحياة العامة، وأن تدلي برأيها في كل أمر من أمور المسلمين، فهي ليست محصورة في البيت لا تبرحه، بل لها أن تخالط المجتمع، وأن تتحدث معهم وتشاركهم أعمالهم، بضوابط الشرع التي حددها العلماء؛ بغضّ البصر، والتزام اللباس المحتشم، وأن يكون كلامها وقورًا بعيدًا عن الإغراء والإثارة، وأن تتحلى بالحياء في مشيها وحركاتها، وألا تختلي برجل، وأن تحرص على أن تكون لقاءاتها بالرجال في حدود الحاجة وبما يوجبه العمل المشترك، ويضرب الإسلام بيد قوية على من يلغي هذه الفواصل ويتعدى حدودها؛ لأن هذا يعني انحلالًا أخلاقيًّا، ومشكلات اجتماعية لا حصر لها.
لا إفراط ولا تفريط
وإذا كان خصوم الإسلام ومن يتبعونهم من المنافقين يريدونها إباحية مطلقة، تقضي على الفضيلة وتشيع الرذيلة، فإن هناك -في المقابل- فريقًا من المسلمين يضيّقون على المرأة ويريدون حبسها، بما يتنافى مع ما جاء به الإسلام ويوقع الخلل في توازن المجتمع، فمنهم من يصرُّ على عدم إخراجها من بيتها إلا لزوج أو لقبر! ومنهم من يصرّ على أن صوتها عورة، بما لا يستند إلى دليل صحيح، ونسوا أو تناسوا ما جاء به القرآن وما حفلت به السُّنة من صور ومشاهد لنسوة خرجن للعمل والخدمة واختلطن بالرجال، مثلما ورد في قصة ابنتي شعيب مع نبي الله موسى عليه السلام في سورة «القصص»: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24} فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {25} قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص)، بل احتفى القرآن بامرأة (ملكة سبأ) كانت رائدة في قومها.
الإسلام يحمي مجتمعاته من التفسّخ
إن الإسلام عندما يفعل ذلك إنما يحمي مجتمعاته من التفسّخ الذي تكتوي المجتمعات الأخرى بناره، كما أنه يسمو بالمسلمة، راغبًا بألا تعود بنفسها إلى عهد الرقيق، ويحميها أيضًا من الوقوع في أيدي الذئاب الذين يتربصون بفرائسهم ليفتكوا بها، وفيما عدا ذلك فللمرأة المسلمة ممارسة حياتها، كواحدة من المجتمع السوي الذي لا يعرف تطرفًا ولا ميوعة.
يقول د. يوسف القرضاوي: فالإسلام لا يعرف الغلو في حجب النساء الذي عُرف في بعض البيئات والعصور الإسلامية، فهو من التقاليد التي استحدثها الناس احتياطًا منهم، وسدًّا للذريعة في رأيهم، وليس مما أمر به الإسلام.