الجهاد وسيلة من وسائل دعوة الحق
جمعه: المفتي الدكتور أحمد محيي الدين نصار
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد،،،
إن الصراع بين الحق والباطل قديم وموجود مع وجود البشرية، وقد قرر القرآن الكريم ذلك بذكره حادثة ابنيّ آدم؛ فقال عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)؛ فهاتين الآيتين ترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها البشر، وتقدم نموذجاً لطبيعة الشر والعدوان الصارخ الذي لا مبرر له من جهة، ونموذجاً لطبيعة الخير والسماحة من جهة أخرى، وتثير الشعور بالحاجة الى شريعة نافذة بالقصاص العادل تكف النموذج الشرير والمعتدي.
وما زال الصراع بين الحق والباطل مستمراً يزداد يوماً بعد يوم كلّما بعُد الناس عن الدين وانعدم الضمير الانساني، واتسعت دائرة الصراع حتى عمّت الأفراد والجماعات والدول، وما دامت في الدنيا نفوس لها أهواء ونزوات وطموحات فلا بد من الاشتباك ووقوع الحرب، وما دام هناك في الدنيا خير وشر وحق وباطل وظالم ومظلوم، فلا بد من وقوع الحرب، وبوجود دعاة يدعون إلى الله ويجهرون بالحق ويدافعون ويعملون على نشره يظهر الحق ويتوارى الباطل، فإن الغلبة دائما تكون في النهاية للحق وتكون الهزيمة للباطل.
ولهذا كان الجهر بالحق واجباً من الواجبات الدينية والاجتماعية، وناموساً مقرراً وسنّة مطردة ألا يكون هناك لهو، إنّما يكون هناك جدّ، ويكون هناك حق، فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض؛ كما قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ). والتعبير يرسم هذه السنّة في صورة حسيّة حيّة متحركة، فكأنّما الحق قذيفةٌ في يد القدرة تقذف به على الباطل، فيشق دماغه فإذا هو زاهق هالك ذاهب.
ولقد يخيّل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير، وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنّه غالب، ويبدو فيها الحق منزوياً كأنّه مغلوب، وإن هي إلا فترة من الزمان، يمد الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء، ثم تجري السنّة الأزليّة الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض؛ وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء.
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه، فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر عرفوا أنّها الفتنة؛ وأدركوا أنّه الابتلاء؛ وأحسّوا أنّ ربّهم يربّيهم، لأنّ فيهم ضعفاً أو نقصاً؛ وهو يريد أنْ يُعدّهم لاستقبال الحق المنتصر، وأنْ يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء؛ يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف حتى يحقق على أيديهم ما يشاء؛ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، والله يفعل ما يريد.
فمجابهة الباطل فريضة دينية وواجب انساني، وتكون هذه المجابهة بالدعوة الى الإسلام؛ الدين الحق؛ والداعي الأول الى الله تعالى هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أمره الله تعالى بتبليغ الدعوة؛ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
وقد حملت أمته الدعوة من بعده ولها فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ فقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، ويتبين بذلك أن البشرية بحاجة إلى دين الإسلام، وأن العالم لا يستغني عن الإسلام، وبدون الإسلام سيكون العالم شقياً.
ولقد كرّس النبيّ صلى الله عليه وسلم حياته المباركة في مكة المكرمة ليصل صوت الإيمان والهدى إلى آذان النّاس كلّهم، ولكن قريشاً لم تخل بينه وبين العرب، بل أثاروا ضده حرباً وآذوه، مما اضطره إلى الهجرة إلى يثرب. وبعد الهجرة لم تترك قريش العداء والحقد على دعوة الحق، فكان ولا بد أن يأمر الله نبيه الكريم بقتال هؤلاء العتاة المعتدين، ليصدهم عن محاربة الحق ويحمي دعوته المباركة؛ (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).
تقرر الآية الكريمة أن الجهاد للعقيدة؛ لحمايتها من الحصار؛ وحمايتها من الفتنة؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه.
هذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام، ويقره ويثيب عليه؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء. إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة؛ القتال في سبيل الله، لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض، ولا في سبيل الأسواق والخامات والموارد، ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس، إنما هو القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو يُخرجوا من ديارهم، أو أن يجرفهم الذل والضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام.
إن العالم اليوم في جاهلية أعظم من الجاهلية التي كانت قبل الإسلام، لأن أعداء الإسلام في كل مكان يخططون ويعملون للقضاء عليه بكل وسيلة. والأمة الإسلامية تتعرض لهجوم منظم ومقصود بالإلحاد والشذوذ والاحتلال، وعلى زعامة هؤلاء الصهيونية العالمية؛ وقد استعمل هؤلاء شتى الطرق وأمكر الأساليب، ولو أن بعض هذه الحملات وجّهت إلى غير الإسلام، وإلى غير هذه الأمّة لانتهت من الدنيا ولم يبق لها أثر، ولكنه الدين الحق الذي تكفل الله بحفظه، والأمة التي رعاها بعينه وحرسها بعنايته؛ قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ وهُمْ كَذلكَ).
فمن الواجب على المسلمين أن يتمسكوا بعقيدتهم، ويقوموا بواجباتهم الدينية، ويعتزوا بهويتهم، ويجاهدوا أنفسهم على ذلك، ويجاهدوا عدوهم بأنفسهم وأموالهم حتى يكون الله وليّهم وناصرهم والمعين لهم على عدوهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). ولا بد مع هذا من الأخذ بأسباب الوسائل من الحزم والحذر والاستعداد بالقوة، كما أرشد اليها الله عز وجل في قوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)؛ وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وكما فعل مجاهدوا غزة وفلسطين، وساروا بمعركة طوفان الأقصى المباركة.
والعالم اليوم من أقصى الشرق الى أقصى الغرب يتهيء لعودة الدعاة المخلصين خلفاء محمد الأمين صلى الله عليه وسلم لينيروا الأرض بالدعوة الحقة، كما أنارها أجدادهم، وليقيموا العدل ويحرروا العباد والأرض من الظلم بجهادهم كالمسلمين الأولين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
انتهى