اهتمام فاتيكاني متزايد بلبنان: رسائل للمسيحيين بلا خارطة طريق
لم يكد الأب ميشال جلخ يلتحق بوظيفته الجديدة كأمين سر لدائرة الكنائس الشرقية في الفاتيكان، وهو الموقع الأعلى في التراتبية الإدارية من جميع بطاركة الكنائس الكاثوليكية في الشرق، حتى بدأت السفارة البابوية في بيروت حجز مواعيد لأمين سر دولة الفاتيكان بيترو بارولين (الرجل الثاني بعد البابا، والأول في الدور والوظيفة السياسييْن بوصفه رئيس السلطة التنفيذية و«مدير العلاقات الخارجية») الذي أعلن، منذ الأول لتعيين البابا فرنسيس له سكرتيراً للدولة 2013، أن هدفه «تغيير علاقات الكنيسة» و«تجديد جميع هياكل الكنيسة بما في ذلك بلاط البابوية والدبلوماسية الكنسية».زيارة بارولين التي بدأت أمس وتستمر ثلاثة أيام، تحمل بحسب مطّلعين رسائل عدة:
أولاها، إصرار الفاتيكان على القول إنه موجود في لبنان، كما كان هدف زيارات جان إيف لودريان وعلي باقري كني وعاموس هوكشتين، إذ لم يكد رئيس دائرة كنائس الشرق الأوسط في الفاتيكان لاوديو غودجيروتي يغادر لبنان حتى وصل أمين سر الفاتيكان. وإذا كان المسؤولون الفاتيكانيون اعتادوا المرور بلبنان في سياق زياراتهم للمنطقة، إلا أن بارولين يحصر زيارته بلبنان، مع تسريب مراجع فاتيكانية في روما، في الأيام الماضية، بأن الكرسي الرسولي أبلغ الأميركيين بحزم بوجوب منع إسرائيل من توسيع الحرب لأن المنطقة وأهلها لا يتحمّلون مزيداً من الحروب، فيما لا ينفك بارولين يكرر الحديث عن «استعداد البابا لعمل جدي من أجل تسوية شرق أوسطية تقوم على حلّ الدولتين».
ثانيتها، تجاوز الكرسي الرسولي المنظمات والرهبانيات التي تخصص ميزانيات ضخمة للعمل الاجتماعي والتربوي والاستشفائي، وتدير مدارس ومستشفيات وتوظّف الآلاف، لتكريم جمعية فرسان مالطا التي تسجل إنجازات جدية في المشاريع الاستشفائية (والزراعية أخيراً)، رغم أن ميزانيتها (نحو 20 مليون دولار سنوياً) وعدد موظفيها (أكثر من 600) لا يُقارنان بجمعيات كاثوليكية أخرى، وهو ما يجعل تخصيص الجمعية بتكريم على هذا المستوى أمراً لافتاً. ورغم أن تعيين جلخ شيء وتكريم بارولين لفرسان مالطا شيء آخر، يبدو السياق الأساسي للأحداث واحداً: مع تركيز الكرسي الرسولي على «التغيير والتجديد» داخل المؤسسات الكاثوليكية وفي علاقتها مع الكرسي الرسولي لتصبح علاقة مؤسسية لا علاقة أفراد واتصالات جانبية، يعطي بارولين فرسان مالطا الشرعية الرسمية التي تفتقدها بوصفها الذراع الاجتماعية – الخدماتية المباشرة للكرسي الرسولي في الشرق، ويؤكد على أن هذا النمط من الانفتاح والعمل في جميع المناطق والمناطق المنسية والبعيدة خصوصاً هو أكثر ما يريده الكرسي الرسولي، وأن المستوصف الصغير الذي لا يبغي الربح ويفتح أبوابه للجميع أهم من المستشفيات الضخمة التي تبغي الربح ولا تستقبل الفقراء.
ثالثتها، قدوم بارولين لزيارة الموظفين والمتطوعين في المستوصف ومركز رعاية المعوقين يؤكد رهان الفاتيكان على الأفعال أكثر من الأقوال، وعلى من يحاولون أن يفعلوا شيئاً أياً كان حجمه بدل البكاء المتواصل على الأطلال.
رغم إلحاح البعض في طلب مواعيد مع الزائر الفاتيكاني، حاولت السفارة البابوية الاكتفاء بالزيارات البروتوكولية الضرورية، وتخصيص اليوم للقاء أكبر عدد ممكن من رجال الدين، مسيحيين ومسلمين، مع رغبة السفارة بأن تتطور هذه اللقاءات إلى ورش عمل بدل أن تنتهي بالتقاط الصور، فيما يخصص الثلاثاء لزيارة منشآت اجتماعية والصلاة مع المتطوّعين.
الرسالة الرابعة التي يُفترض أن يكرر بارولين الحديث عنها في خطابه هي تجاوز عقبة تقاذف المسؤوليات وتبرير الفشل والعناد نحو الانخراط على المستويين الكنسي والسياسي في «التغيير والتجديد» اللذين لم يملّ بارولين من الحديث عنهما منذ تعيينه في منصبه قبل أكثر من عشر سنوات. وإذا كان بارولين قد التقى بعيداً عن الإعلام رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل خلال زيارته الأخيرة لروما قبل بضعة أسابيع، وخرج من الاجتماع بتصور إيجابي، فإن المقرّبين من أمين سر الفاتيكان يقولون إن المطلوب من جميع القيادات براغماتية تعترف بالواقع وتأخذ المتغيّرات في الاعتبار، لتبني مواقفها بكل ما يستلزم التغيير والتجديد من شجاعة. وخلافاً لما شاع عن سعي الزائر البابوي لجمع القيادات المسيحية عموماً ورئيسَي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية خصوصاً، أكّد مصدر لبناني مطّلع في الفاتيكان أن موقفَي باسيل ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل معروفان لجهة الترحيب، فيما الموقف القديم – الجديد لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع معروف أيضاً لجهة الإصرار على الأُحادية المسيحية، وهو لن يعطي – على الأغلب – بارولين ما لم يعطه للبطريرك بشارة الراعي. ومع ذلك فإن احتمال «الخلوة الروحية» الأربعاء بمن حضر في السفارة البابوية وبمشاركة الراعي، أمر وارد جداً، في ظل حرص فاتيكاني أيضاً على عدم إظهار بارولين بمظهر من نجح حيث فشل الراعي، مع تأكيد مقرّبين من بكركي أن هدف البطريرك هو النتيجة وليس الوسيلة، وأنه هو من اقترح عقد اللقاء، وليس لديه أي تحفظ أو مأخذ. ويؤكد مصدر فاتيكاني أن رياضة روحية مشتركة مع بارولين للسياسيين المسيحيين قد تكون اقتراحاً مناسباً، لكن الأكيد أن الكرسي الرسولي يريد من زيارة أمين سر دولة الفاتيكان القول إنه يهتم بمن يعمل مع الفقراء والمنسيّين ويسعى لتثبيت المسيحيين في أرضهم في الشرق، ولا يهمه، بالتالي، القول إنه أتى ليجمع زعماء الموارنة من أجل الصورة من دون مشروع مشترك سياسي – اقتصادي – اجتماعي عنوانه تثبيت المسيحيين في الشرق لا الاقتتال بهم وعليهم وتدفيعهم فواتير باهظة.
لا يمكن أن تكون توجيهات الفاتيكان إلى التفاهم والاندماج فيما مشروع بعض من يمثّل المسيحيين التصادم والتقوقع
أخيراً، ثمة عمل فاتيكاني كثير في ما يخص لبنان: اتصالات بعيدة عن الأنظار مع قوى سياسية، إعادة ترتيب العلاقات مع الكنائس، ورش داخل الكنائس والرهبانيات، عملية التطويب التي تمثّل دفعاً معنوياً كبيراً للمؤمنين للبقاء في أرضهم، العلاقة مع المنظمات الإنسانية والاجتماعية والتربوية والاستشفائية، العلاقة مع أفراد معيّنين وما ينتج عنها من تعيينات للبنانيين في مواقع دبلوماسية وإدارية مهمة، الحركة المسؤولة للسفارة البابوية في لبنان.
لكن هذا كله، ورغم إيجابيته، يحصل بالمُفرّق من دون خارطة طريق أو تصوّر جدّي مع مراحل وتوقيت زمني، وهو ما يظهر هذا التراكم كله بمظهر الخطوات الارتجالية بدل تقديم مشروع متكامل يطمئن الرأي العام ويلزم الأحزاب السياسية والكنائس والمؤسسات الاجتماعية بما يفترض احترامه وما لا يمكن تجاوزه. إذ لا يمكن أن يكون توجه الفاتيكان الواضح هو التفاهم والاندماج، فيما مشروع بعض من يمثّل المسيحيين هو التصادم والتقوقع، تماماً كما لا يمكن أن يكون شعار أمين سر دولة الفاتيكان هو التغيير والتجديد فيما يراوح بعض من يمثّل المسيحيين في المكان الذي كان يقف فيه قبل أكثر من خمسة عقود، مفترضاً – ومعه الكثير من الرأي العام المسيحي – أن كل ما نتج عن خياراته من تهجير وهجرة وخسارة للدور والوظيفة والمكان والمكانة هو انتصارات مجيدة.
فرسان مالطا وخطر الصحناوي
منظمة فرسان مالطا التي حوّلت مقرها العام في روما إلى «كيان ذي سيادة» يتمتع بعلاقات دبلوماسية مع أكثر من مئة دولة (ليس من بينها إسرائيل)، هي غير جزيرة جمهورية مالطا التي تقع في البحر المتوسط. وللمنظمة منتسبون حول العالم يحق لهم المشاركة في انتخاب مجلسها التنفيذي، وقد ارتفع عدد المنتسبين اليها في لبنان، أو «الفرسان»، من نحو 15 سابقاً إلى أكثر من خمسين اليوم؛ غالباً ما كانوا من الأثرياء الكاثوليك (الموارنة ضمناً) أو المؤثّرين في الرأي العام (كبار الكُتّاب سابقاً) أو البيوتات التي تجمعها علاقات شخصية قديمة بالأرستقراطية الفرنسية أو الإيطالية أو الألمانية. وتركّز المنظمة على الاستشفاء والعمل الإنساني عند الأزمات. وهي تحظى بدعم كبير من متموّلين كاثوليك حول العالم بسبب السردية التاريخية التي تعيد تاريخ تأسيسها إلى عام 1048 حين أنشأ بعض التجار المسيحيين ما يشبه الصليب الأحمر لتأمين الرعاية الطبية والحماية للحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدّسة، قبل أن تتداخل الأمور غداة الحروب الصليبية ويتحول «فرسان الرعاية الصحية» إلى «فرسان عسكريين» لحماية المسيحيين في الشرق. وهو ما يعطي منظمة فرسان مالطا طابعاً نوستالجياً مستمداً أساساً من دورهم في حماية مسيحيي الشرق، وشرعية مستمدّة بشكل أساسي من تأهيل وتطوير وإدارة مستشفى العائلة المقدّسة في بيت لحم وعملهم الاستثنائي في لبنان في العامين الماضيين. وهي إذ تنطلق من فكرة حماية الوجود المسيحي في الأراضي المقدّسة فإنها لا تتناغم في المبدأ مع سياسات كثيرة لم ينتج عنها إلا تهجير المسيحيين سواء في لبنان أو في المنطقة أو في القدس نفسها التي يواصل فيها الإسرائيليون استراتيجية التهجير والتهويد.
ويمثّل رئيس جمعية فرسان مالطا الحالي مروان الصحناوي خطراً حقيقياً على المسؤولية التي يحملها الكرسي الرسولي للجمعية اليوم، فهو رغم تفرّغه الكامل لإدارة الجمعية التي شهدت نمواً واضحاً في عهده، يخرج عن التزام المسؤولين في الجمعية بعدم تعاطي العمل السياسي أو ما يصفه الصحناوي نفسه في إحدى مقابلاته بأنه «حملُ أي صبغة سياسية». وقد كانت هذه الصبغة واضحة في قوله في مقابلة مع موقع «فاتيكان نيوز»، في 6 حزيران 2021، بأن لبنان «كان خاضعاً في الماضي للنفوذ السوري وبات اليوم تحت سيطرة الميليشيات الموالية لإيران»، وهو «يواجه للمرة الأولى خطر فقدان هويته حيث يمكن أن لا يعود هناك مسيحيون أحرار».
غسان سعود