أخبار عربية ودولية

«الأرض المنذورة للتسلح»: خطر الميليشياوية يتعزز

رغم مرور 248 عاماً على نشأة الولايات المتحدة، والتي اكتنفت «نسخة أولى» من ثقافة حمل السلاح، أثناء حقبة إبادة السكان الأصليين من الهنود الحمر، ثم «حرب الاستقلال» ضد البريطانيين، ثم انتقلت إلى «نسخة ثانية» من تلك الثقافة، إبان فصلَي الحرب الأهلية والتمييز العنصري ضد أبناء الجالية الأفريقية، لا تزال «دولة الرب» أو «الأرض المنذورة للتسلح»، كما يحلو لأنصار اليمين الأميركي المتطرف أن يسموها، واقعة في التناقض الإشكالي نفسه. ومع مرور الوقت، وبالنظر إلى الحصيلة الكبيرة من جرائم القتل بالأسلحة النارية، والتي تجاوزت 260 ألف جريمة بين عامَي 1900 و 1964، بفعل ظاهرة تفشي السلاح في أوساط المدنيين، تحول ذلك التناقض إلى أحد تجليات الواقعين السياسي والمجتمعي داخل الولايات المتحدة، وعنواناً أساسياً للصراع بين الديموقراطيين، الذي يميلون غالباً إلى «تقنين» تلك الظاهرة، والجمهوريين الذين يزكّونها بدعم من «لوبي السلاح»، وبدعوى التمسك بمندرجات «التعديل الدستوري الثاني»، الذي يمجّد «الميليشيات حسنة التنظيم».وقد توالى، منذ ذلك الحين، صدور القوانين ذات الصلة، سواء على مستوى الحكومة الفيدرالية أو الولايات، والتي تباينت طبيعتها بحسب العهود الرئاسية، بين تشريعات متشددة في فرض المزيد من القيود على اقتناء الأسلحة، على غرار «قانون الأسلحة النارية الوطني» الصادر عام 1934، وأخرى سارت في اتجاه معاكس، بفعل ضغوط «الجمعية الوطنية للبنادق» (N.R.A)، على غرار تلك التي صدرت في عامَي 1968 و1989، في ظل نجاح الآلة السياسية والدعائية للجمهوريين في إكساب اقتناء السلاح طابعاً اجتماعياً ودينياً، وخصوصاً لدى أبناء الريف المحافظين، والذين يعدون أساس القاعدة الناخبة التقليدية للحزب الجمهوري.
وأعادت محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، السبت الفائت، فتح السجال المتواصل بين المدافعين عن ما سمّاه أحد «الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة، والمعروف بـ«أبي الدستور»، جايمس ماديسون، «ميزة امتلاك السلاح والتي يتفوق بها الأميركيون على كل البلدان تقريباً»، وبين متبنّي ما دأب الرئيس الحالي، جو بايدن، وأعضاء فريق إدارته وحملته الانتخابية على وصمه بـ«العنف السياسي».

«لوبي السلاح» بين التقدّم والتراجع
يرى مراقبون أن ما حدث في بنسلفانيا، هو «نتاج نموذج صناعي (قطاع صناعة الأسلحة)، مصمّم للاستفادة من تأجيج الكراهية، والخوف من انعدام الاستقرار، ونظريات المؤامرة». ومن هذه الخلفية، يمكن فهم أسباب ارتفاع الطلب على الأسلحة الفردية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، إلى أرقام قياسية بلغت أكثر من عشرة ملايين قطعة سلاح في السنة بحلول عام 2013، وذلك لأسباب تتعلق باستشراء العنصرية وصعود أيديولوجية «تفوّق البيض» من جهة، ونجاح «لوبي الأسلحة» وحلفائه من اليمين المتطرف داخل الكونغرس وخارجه، في إعادة إنتاج سردية فحواها أن «الحكومة العلمانية ترغب في انتزاع الحق المقدس للأميركيين في حمل السلاح» من جهة أخرى. ومن الخلفية عينها، تُفهم أيضاً أسباب عدم تسجيل أي زيادة ملحوظة في أعداد المنتسبين إلى تلك اللوبيات في عهد ترامب، المعروف – أسوة بأسلافه الجمهوريين – بعلاقاته الوثيقة مع «جمعية البنادق»، التي تبرعت بما لا يقل عن 30 مليون دولار لحملته الانتخابية عام 2016، علماً أن العام الأخير من عهده شهد أكبر معدلات جرائم قتل بأسلحة نارية منذ مطلع التسعينيات، وهو ما فاقم القلق لدى شريحة واسعة من الأميركيين من فوضى السلاح.
وفي مشهدية ما بعد محاولة اغتيال ترامب، ذهبت بعض التقديرات إلى أن الحزب الجمهوري سيحاول الاستفادة من الحادثة لتزخيم الحملات المؤيدة للتساهل في شروط حيازة الأسلحة، وتعزيز موقف صانعي السلاح (ارتفعت أسهم شركات صناعة الأسلحة والذخيرة، من قبيل «سميث آند ويسون براندز» و«شتورم روجر آند كومباني» وغيرها، بنسب تراوحت بين 7 و 15 في المئة، بعد محاولة الاغتيال). وبالفعل، أكد أحد كبار مستشاري حملة ترامب، كريس لاسيفيتا، الثلاثاء، أن الرئيس السابق سيحمي حقوق حيازة السلاح، بتعيين قضاة اتحاديين يعارضون فرض قيود جديدة على ذلك. وفي المقابل، أشارت توقعات أخرى إلى أن الحزب الديموقراطي سيعزف من جديد على نغم تشديد تلك الشروط، كما جرت العادة عقب كل حادث جرمي باستخدام الأسلحة الفردية، ومن بينها جريمة القتل الجماعي في أوفالدي في ولاية تكساس قبل نحو عامين، والتي ألقى بايدن إثرها باللائمة على «لوبي الأسلحة». وقبل أيام قليلة، طالب الرئيس بحظر بندقية «AR-15» التي استخدمت في محاولة اغتيال خصمه الجمهوري (ويشيع استخدامها في جرائم القتل الجماعي داخل البلاد)، فيما شدّد السيناتور الديموقراطي، كريس مورفي، صاحب الدور الأبرز في تمرير تشريع 2022 والذي يدعو إلى فرض شروط إضافية على تراخيص حيازة الأسلحة (وإن منعت معارضة المشرعين الجمهوريين تضمينه بنوداً تحصر حق الحصول على الرخصة بمن تُجاوز أعمارهم 21 عاماً)، على أنه «لا يتعين على حكومتنا تسليم القتلة ومرتكبي جرائم القتل الجماعي الأسلحة التي تتيح لهم ارتكاب المذابح».

يرى مراقبون أن ما حدث في بنسلفانيا، هو «نتاج نموذج صناعي، مصمّم للاستفادة من تأجيج الكراهية»


وبالتوازي مع ذلك، عادت محاكمة الرئيس السابق لـ«جمعية البنادق»، واين لابيير، بتهم فساد، إلى دائرة الضوء، ما قد يترتب عليها من وضع الجمعية تحت إشراف مراقب مستقل، بدعوى سوء إدارة الأصول المالية. وصاحبت هذا، أنباء عن حدوث تغييرات واسعة في مواقع قيادية داخل الجمعية، في ظل ما يُشاع عن انشقاقات في صفوف أعضائها، وخلافات مع متمولين كبار من الداعمين التاريخيين لها. ومن منظور صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن تلك التحديات الداخلية التي تواجهها الـ«N.R.A»، تنطوي على «مخاطر» جمّة، سواءً على مستوى عديدها الذي تراجع من حوالى 5.3 ملايين فرد في عام 2018، إلى ما دون 4 ملايين في العام الماضي، أو على مستوى حضورها، مع هبوط حجم التبرعات السنوية التي تستقطبها، في المدة نفسها، من 281 مليون دولار إلى 115 مليون دولار. ويتقاطع ما تقدم، مع قيام جمعيات حقوقية برفع مستوى الإنذار من خطورة الوضع؛ إذ شدّدت منظمة «Everytown for Gun Safety»، المناهضة لسياسات «لوبي الأسلحة» وداعميه من السياسيين، على أنه «لا حصانة لأحد من العنف المسلح عندما تكون الأسلحة في كل مكان، ومتاحة لأي شخص من دون نقاش».

السيناريو الأسوأ: تعايش جماعي مع ظاهرة التسلّح
في المقابل، ومع ما أظهرته استطلاعات الرأي من شعور قرابة 80 في المئة من الأميركيين بالخشية من خروج المنافسة السياسية بين بايدن وترامب عن السيطرة، وبقاء الحظوظ الانتخابية للرجلين عند هوامش متقاربة بعد محاولة الاغتيال في بنسلفانيا (43% للثاني مقابل 41% للأول)، برز ميل لدى كل منهما، بخاصة على مقلب الحزب الديموقراطي، إلى تحييد تلك المحاولة قدر الإمكان عن التوظيف الانتخابي، خوفاً من ارتدادات عكسية غير متوقعة. وهذا بالضبط ما دفعهما إلى انتهاج خطاب «تصالحي»، إذ اكتفى بايدن، الذي علّق حملته الانتخابية مؤقتاً، وسارع إلى مكالمة ترامب هاتفياً للتضامن معه، بالتركيز على «خطاب وحدوي»، وبالتالي تفادي إطلاق دعوة صريحة إلى تدشين سياسات تعد موضع خلاف مع الغالبية الساحقة من الجمهوريين، ولا سيما في قضية حيازة الأسلحة الفردية. كما شدّد بايدن، في اجتماع لـ«الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين» في لاس فيغاس، على أهمية خوض «نقاش حقيقي» بين الأميركيين، داعياً إلى «التحلي بالمسؤولية للتخفيف من حدة الجدل السياسي الساخن». وبعد وقت قصير من وقوع الحادث، نبّه بايدن إلى أنّه «يجب أن نحل مشكلاتنا عبر صناديق الاقتراع»، مضيفاً أن «الوحدة هي هدف نسعى من أجله هنا في الولايات المتحدة». وفي الاتجاه نفسه، وقبيل ساعات من توجهه إلى المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في ميلووكي في ولاية ويسكونسن، الإثنين الماضي، أطل ترامب عبر حسابه على موقع «تروث سوشيال»، قائلاً: «وحّدوا أميركا».
مع ذلك، أعرب نائب رئيس منظمة «United Against Gun Violence»، المناهضة لظاهرة تفلّت السلاح، تي كريستيان هاين، عن استهجانه المشهد السياسي الراهن، معتبراً أنه «من المثير للقلق أن قادتنا لا يستجيبون لهذا العمل المروّع من العنف السياسي عبر تبني دعوات عاجلة إلى منعه (مستقبلاً)»، عبر تشديد شروط حيازة الأسلحة. ورأى هاين أن «الرد المكتوم النبرة (من القادة السياسيين) يعكس حالة من التعايش، والتطبيع الخطير مع ظاهرة العنف السياسي والتهديد الذي يمثله (تفلّت سوق) الأسلحة النارية».

خضر خروبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *