أميركا ما بعد ترامب: ثمة «مكان للعنف»… وأكثر
يحمل شعار «لا مكان للعنف في بلادنا»، الذي عاد ليتردّد على ألسنة المسؤولين الأميركيين، الكثير من المغالطات. فالعنف، بمعناه الواسع، وليس السياسي فحسب، سلوك أصيل في السيكولوجيا الأميركية، منذ أيام المستعمرات الأولى إبّان الحُكم البريطاني، وقبلها أثناء تطهير الأرض من سكانها الأصليين، ثم الحرب الأهلية التي سبقت حقبة «الوحدة». لكنّ «العنف السياسي» عاد ليزدهر، قولاً وفعلاً، في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، مع التحوّل الحادّ في الخطاب الأميركي نحو معاداة «الآخر»، والمترافق مع استقطاب أخذ أشكالاً مختلفة، تمظهرت خصوصاً منذ واقعة اقتحام «الكابيتول» في السادس من كانون الثاني 2021، والتي مثّلت الترجمة العملية لإصرار ترامب على رواية «سرقة الانتخابات»، ولاحقاً عبر ملاحقة المرشّح الجمهوري قضائيّاً، ولأسباب بدا واضحاً لكثيرين أنها سياسية، في ما يمكن وضعه أيضاً في الإطار الذي يغذّي العنف السياسي.ولعلّ من أسباب تصاعد هذا الصنف من العنف، ما خلصت إليه دراسة نُشرت ضمن مشروع «الأمن والتهديدات» التابع لجامعة شيكاغو، من «تدنّي» ثقة الأميركيين بزعمائهم السياسيين، وتصديقهم نظريات المؤامرة (سرقة الانتخابات، الدولة العميقة التي تعادي ترامب…). فوفق استطلاع حديث، برّر 10% من المستطلعين العنف لمنع ترامب من أن يصبح رئيساً، و7% قالوا إنه سيكون مبرّراً لإعادة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض. وممّا كتبه روبرت بيب، عالم السياسة في جامعة شيكاغو، أن محاولة اغتيال ترامب ليست سوى «نتيجة للدعم الكبير للعنف السياسي في بلدنا»، علماً أن دراسات أخرى وجدت أيضاً أعداداً صغيرة، ولكن ليست قليلة، من الأميركيين الذين يؤيدون اللجوء إلى العنف لمآرب سياسية. ففي تشرين الأول الماضي، خلص برنامج أبحاث «منع العنف» في جامعة كاليفورنيا، إلى أن نحو 14% من المشاركين يعتقدون أن حرباً أهلية ستندلع في الولايات المتحدة في السنوات القليلة المقبلة، وأن العنف السياسي سيكون مبرّراً، وفق 8% من المستطلعين.
شكّلت محاولة اغتيال ترامب، في 13 تموز، «أسوأ حدث يمكن وقوعه في أميركا التي تئنّ تحت وطأة الاستقطاب، وهو ما ينذر بمزيد من أعمال العنف السياسي واندلاع اضطرابات اجتماعية»، على حدّ تعبير الباحث السياسي الأميركي، إيان بريمر. ويبدو أن ثمّة أسساً تبرّر مخاوف بريمر، بعدما وجدت دراسة نشرتها وكالة «رويترز»، في آب 2023، أن «الولايات المتحدة في خضمّ أكبر زيادة في معدّل جرائم العنف السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي». ولفهم ما تعنيه «الحادثة» لكلّ من الحملة الرئاسية ومستقبل الولايات المتحدة، يعود أستاذ العلوم السياسية في جامعة «جونز هوبكنز»، روبرت ليبرمان، في مقابلة أجراها أخيراً مع مجلة «فورين أفيرز»، إلى عام 1968، أو كما يصفه، «عام الاغتيالات السياسية»؛ ففيه، اغتيل مارتن لوثر كينغ، وروبرت كينيدي، الذي كان يقود حملةً رئاسية مضطربة، إبّان رئاسة ليندون جونسون الذي اضطرّ للانسحاب من مؤتمر الحزب الديموقراطي في شيكاغو، قبل انعقاده. أمّا الآن، فـ»نحن أمام حملة رئاسية مضطربة تحت شبح العنف السياسي». وإذ يكشف التاريخ أن «الديموقراطية الأميركية لطالما كانت ضعيفة»، كما يقول ليبرمان والعالمة السياسية سوزان ميتلر، في المجلة نفسها (2020)، فإن «شيئاً واحداً علينا أن نتذكّره، وهو أن عام 1968 لم يكن جيداً بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي. تمّ تعيين نائب الرئيس هيوبرت همفري خلفاً لجونسون، وخسر الانتخابات. ولم يكن ريتشارد نيكسون، الفائز، هو الشخصية المهدّئة والموحّدة التي احتاجت إليها البلاد في تلك اللحظة. من المؤكد أن ترامب لن يكون هذا الشخص إذا انتهى به الأمر إلى الفوز في هذه الانتخابات»، وفق ما فنّده ليبرمان في مقابلته.
برّر 10% من المستطلعين العنف لمنع ترامب من أن يصبح رئيساً، و7% قالوا إنه سيكون مبرّراً لإعادة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض
في تلك المرحلة من عام 1968، كانت الولايات المتحدة أقلّ استقطاباً بكثير ممّا هي عليه راهناً، لكن إطلاق النار على ترامب حدث في وقت أصبح فيه الاستقطاب شديداً إلى درجة مثيرة للقلق. وفي هذه الحالة، فإن الأمر لا يعود لعبة بين المتنافسين الانتخابيين، بل يصبح، كما يقول ليبرمان، «أشبه بالقتال المميت»، حيث يعتقد الناس أن فوز «الآخر»، من شأنه أن «يمثّل تهديداً مميتاً لقيمهم ولوجود البلاد كما يفهمونها». وبرأي ليبرمان أيضاً، هناك أربع سمات تساعد في إحداث الأزمات الديمقراطية: الاستقطاب السياسي، الصراع حول مَن ينتمي إلى المجتمع السياسي، التفاوت الاقتصادي المتزايد، والإفراط في السلطة التنفيذية. ولعلّ ما يجعل السنوات الأربع الماضية مختلفة، هو أن جميع تلك السمات كانت حاضرة، و»هي التي أسهمت في تعزيز صعود ترامب، وكانت من الأسباب التي جعلت البلاد عرضة لحادث مثل اقتحام مبنى الكابيتول».
على أن الغلبة في واشنطن أصبحت للعداء، مصحوباً بسياسة حافة الهاوية والاختلال الوظيفي الذي يعرّض عملية صنع القوانين في ما يتصل بالقضايا الكبرى، للخطر، وفق ما انتهى إليه ليبرمان وميتلر في مقالتهما «الجمهورية الهشّة». ففي خمسينيات القرن الماضي، عندما سَأل منظّمو استطلاعات الرأي، الأميركيين ما إذا كانوا يفضّلون أن يتزوج أولادهم شخصاً محسوباً على الحزبيَن الديمقراطي أو الجمهوري، فإن معظمهم (72%) إمّا أنهم لم يجيبوا أو أنهم قالوا إنهم لا يهتمّون. وعلى النقيض، في عام 2016، أعربت غالبية المشاركين (55%) عن تفضيل حزبي في حال الزواج، بعدما أصبحت الحزبية بالنسبة إلى العديد من الأميركيين، جزءاً أساسيّاً من هويتهم. وإذا كانت الأحزاب السياسية ضرورية لعمل الديمقراطية، فهي «عندما تقسم المشرّعين والمجتمع إلى معسكرَين متعارضَين بشكل غير قابل للتغيير، فمن الممكن أن تؤدي إلى تقويض التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي».
مع ذلك، ليس الاستقطاب، في حال من الأحوال، ثابتاً، بل هو عملية تتغذّى على نفسها وتخلق سلسلة من النتائج المتفاقمة. وتؤدي هذه الديناميكيات إلى ظهور جهات فاعلة أقلّ التزاماً بالمبادئ، كما تجسّد في صعود ترامب مثلاً. وممّا يراه ستيفن ليفيتسكي، ولوكان واي، في مقالتهما المعنونة «عصر عدم الاستقرار القادم في أميركا» (فورين أفيرز، 2022)، فإن «الولايات المتحدة لا تتّجه نحو حكم استبدادي على النمط الروسي أو المجري، وفق ما حذّر منه بعض المحلّلين، بل نحو شيء آخر: فترة طويلة من عدم استقرار النظام، تتميّز بأزمات دستورية متكرّرة، وعنف سياسي متزايد، وربّما فترات من الحكم الاستبدادي». وبرأي الكاتبين، فإن ترامب فعل أكثر من مجرّد تسييس مؤسسات الدولة؛ فهو حاول سرقة الانتخابات، ورفض القبول بالهزيمة، وعندما فشلت جهوده في قلب نتائج الانتخابات، حرّض حشداً من أنصاره على السير إلى مبنى «الكابيتول» لمنع الكونغرس من التصديق على فوز بايدن، ليخلصا إلى أن «هذه الحملة للبقاء بشكل غير قانوني في السلطة تستحقّ أن تسمّى باسمها: محاولة انقلاب». ويرجِّح حصول أزمات دستورية متتالية، بما في ذلك الانتخابات المتنازع عليها أو المسروقة والصراع الشديد بين الرؤساء والكونغرس والسلطة القضائية، وانتقالَ الولايات المتحدة ذهاباً وإياباً بين فترات «الديمقراطية المختلّة» و»الحكم الاستبدادي التنافسي»، والتي يسيء خلالها القائمون على السلطة استخدامها، فيتسامحون مع التطرّف العنيف أو يشجّعونه.
ملاك حمود