أخبار عربية ودولية

بريطانيا | الحكم الجديد يرسّم سياساته: رهان على استعادة «التوازن»

لندن | تميّزت بريطانيا، على الدوام، دوناً عن معظم دول الغرب، بسرعة عملية انتقال السلطة بين حكوماتها المتعاقبة، إذ يستقيل رئيس الحزب المهزوم فور إعلان نتائج الانتخابات العامة، ويرفع نصّ استقالته مكتوباً إلى الملك الذي يكون على موعد تالٍ في الوقت نفسه تقريباً، مع تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل حكومة جديدة، فيما تُخلي الحكومة الراحلة مكاتبها في غضون 24 ساعة لتكون الوزارات جاهزة لاستقبال شاغليها من الوزراء الجدد. وبالطبع، فإن ذلك يعبّر عن مدى الاستقرار العميق الذي يتمتّع به نظام الحكم البريطاني، بغضّ النظر عمّن يتسلّم مفاتيح «10 دواننغ ستريت»، بحكم أن الخاسرين والفائزين ليسوا في المحصّلة سوى أوجه متباينة للنخبة الحاكمة ذاتها.وهكذا، تبلورت سريعاً معالم سياسة خارجية متكاملة للحكم الجديد الذي ورث من سلفه المحافظ تردّياً غير مسبوق في مكانة الدولة البريطانية في العالم، ولا سيما بعد ترك عضوية الاتحاد الأوروبي، وفشل الجهود لتأسيس تحالفات تجارية ذات معنى مع دول أخرى، بما فيها الولايات المتحدة، الحليف الأكبر، إضافة إلى تورّط مبالغ فيه، أقلّه مقارنة بالقدرات الفعلية للجيش البريطاني، في صراعات وعداوات تبدأ من محور موسكو – بكين، وتمرّ عبر طهران وبيونغ يانغ، ولا تنتهي عند صنعاء وغزة. ولعلّ أول تلك المعالم، إرسال إشارات واضحة تجاه البر الأوروبي، إلى أن حكومة السير كير ستارمر عازمة على تدارك سوء التفاهم الذي غلب على علاقات لندن – بروكسل خلال السنوات الأخيرة، وأنها تريد عقْد قمّة لإعادة ضبط العلاقة بينهما في أقرب وقت؛ علماً أنه لم يسبق أن عقد الاتحاد الأوروبي قمّة رسمية مع المملكة المتحدة منذ قرار الأخيرة ترْك عضوية التكتّل في عام 2020، إذ اقتصر التعامل بينهما، طول الفترة الماضية، على اللجان الفنية التي تم إنشاؤها بموجب اتفاقهما التجاري الثنائي. ومن جهتهم، سارع مسؤولون أوروبيون إلى إبداء انفتاحهم على فكرة عقد قمّة ثنائية مع بريطانيا، وفق النسق الدوري الذي تنظّمه بروكسل مع دول مهمّة، مِن مِثل الصين والهند.
وكان ستارمر حظي، بدوره، بفرص سريعة متلاحقة لتقديم نفسه وتوجّهات حكومته والتعرّف إلى القادة الأوروبيين خلال أيام من تولّيه السلطة، ومن ذلك حضوره قمّة «حلف شمال الأطلسي» في واشنطن، ومن بعدها استضافته في قصر بلينهايم، مسقط رأس رئيس الوزراء الأسبق، ونستون تشرشل، لنحو 50 زعيماً أوروبياً في اجتماع لـ»المجموعة السياسية الأوروبية» – وهو ملتقى يجمع الدول الأعضاء في الاتحاد ودولاً أوروبية أخرى للتشاور. أيضاً، أشار ستارمر في غير مناسبة إلى عزمه تفعيل التواصل بين المؤسسات البريطانية ونظيرتها في بروكسل، فيما كانت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، من أولى الشخصيات التي تواصل معها بعد وقت قصير من إعلان فوز «حزب العمل» بالأغلبية الساحقة في الانتخابات. وإذ قال لها إن العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ستظلّ دائماً «فريدة من نوعها»، فهو أوفد سريعاً وزيره لشؤون العلاقات الأوروبية، توماس سيموندز، إلى بروكسل لإجراء محادثات مع نائب رئيس المفوضية، ماروش سيفكوفيتش، الذي وصف مناقشاتهما بـ»المثمرة». ووفقاً لخبراء، يريد ستارمر إبرام اتفاق دفاعي وأمني واسع النطاق بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولجْم التوتّرات التجارية بين الجانبَين في مختلف المجالات.

تبدو بريطانيا مصمّمة على «استعادة القوّة الصلبة ذات المصداقية من أجل ضمان الردع»


من ناحية أخرى، تبدو حسابات ستارمر في شأن العلاقات مع الولايات المتحدة قائمة على الرهان على بقاء البيت الأبيض في عهدة إدارة ديمقراطية تستكمل توجّهات الرئيس جو بايدن الدولية، سواء في أوكرانيا، أو في شرق آسيا، وكذلك في الشرق الأوسط. وهو، لهذه الغاية، ركب قطار الاحتفاء بالرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، واستضافه في جلسة خاصة لمجلس الوزراء البريطاني الجديد، كتأكيد منه على استمرار دعم المملكة لنظام كييف من دون تغيير. والتزمت حكومات المحافظين السابقة، طوال أشهر الحرب في أوكرانيا، بدعم زيلينسكي ونظامه، فأرسلت إليه أسلحة ومعدات متطوّرة، ودرّبت ضباطاً من جيشه، ودعمت مالية حكومته بمليارات الجنيهات الإسترلينية، كما استضافت عشرات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين. ومن شأن الاستمرار في هذا المسار أن يضع بريطانيا في موقع العداء المستمرّ مع محور موسكو – بكين.
وفي موازاة ذلك، فإن ستارمر، تلميذ توني بلير النجيب، على قناعة بضرورة رفع جاهزية الجيش البريطاني وتطوير قدراته القتالية. وتتناغم هذه التوجهات مع خطّة لاستدراك أوضاع الجيش المتردية، وضعها الجنرال السير رولي ووكر، القائد الجديد للقوات المسلّحة. وكان ووكر كشف، على هامش مؤتمر لقيادات الجيش، أول من أمس، عن خطّة إصلاح طموحة مدّتها ثلاث سنوات تستهدف وضع قوات جلالة الملك في أتم الجاهزية القتالية لخوض حرب حديثة، معتبراً أن تلك الخطّة تشكّل استجابة ملحّة للتهديدات الجيو-سياسية المتصاعدة من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
ونقلت الصحف عن ووكر، قوله إن بلاده مصمّمة على «استعادة القوّة الصلبة ذات المصداقية من أجل ضمان الردع»، لكنه نفى أن تكون خطّته بأيّ شكل توجّهاً لشنّ الحروب، لكن «من شأنها أن تمنح المملكة المتحدة جيشاً قوياً بما يكفي لردع الخصوم، وجعلهم يفكرون مرتين»، منبّهاً إلى أن روسيا ستخرج من الحرب في أوكرانيا «أخطر بما لا يقاس»، وستسعى إلى الانتقام، وأن «الدروس المستفادة من التاريخ تشير إلى أن الروس لا ينسون، وسيعودون للانتقام من الدول التي دعمت أوكرانيا».
ويريد ووكر، الذي أصبح قائداً للجيش البريطاني، في حزيران الماضي، أن تنجز خطّته خلال ثلاث سنوات لمواجهة تقاطع ثلاثة تهديدات إستراتيجية لبريطانيا: أولها إعادة بناء الجيش الروسي خلال ثلاث إلى خمس سنوات من انتهاء الصراع في أوكرانيا، وثانيها دفع الرئيس الصيني شي جين بينغ لجيشه الأحمر نحو «توفير خيار عسكري لاستعادة تايوان بحلول 2027-2028»، وثالثها أن تنتج إيران قنبلتها النووية. وقال ووكر إنه يريد أن يضاعف القدرة القتالية للجيش ثلاث مرات بحلول عام 2030، عبر التخلّي عن عقلية «الجيش الكبير»، وتبنّي تقنيات قتل وتدمير جديدة، مثل أسراب الطائرات من دون طيار، والصواريخ الدقيقة ذات الرؤوس الحربية المتعددة والمدعومة ببرامج تدار بالذكاء الاصطناعي.
وأتى الإعلان عن خطّة القائد الجديد للجيش، بعد يوم من إعلان وزير الدفاع البريطاني، جون هيلي، أن حالة القوات المسلحة البريطانية «أسوأ بكثير» ممّا كان يَعتقده أثناء وجوده في مقاعد المعارضة، وفي وقت تعهّدت فيه حكومة «المحافظين» السابقة لـ»الناتو» بزيادة الإنفاق الدفاعي سنوياً، خلال العقد المقبل، إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي (من حوالى 2.3% حالياً). ويبلغ عديد القوات المسلحة البريطانية، اليوم، 75 ألف جندي، وهو أصغر جيش تحتفظ به المملكة منذ منتصف القرن التاسع عشر، لكنها تعتمد على أدوات التكنولوجيا الحديثة والذخيرة الذكية وعشرات القواعد الموروثة من أيام الإمبراطورية، ومنها قاعدتان في قبرص انطلقت منها عمليات القوات البريطانية لمهاجمة اليمن، ودعم المجهود الحربي الإسرائيلي في قطاع غزة، كما مراقبة الأجواء السورية.

سعيد محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *