التيّار على صورة سواه: التزام القرار أو المغادرة
سواء قيل عما حدث في التيار الوطني الحر انه عابر وانتهى او فاتحة مرحلة مضطربة فيه، او قيل يقويه او قيل يضعفه، بمرور الوقت سيتأكد انه من طبيعة الاحزاب اللبنانية ممثلة طوائفها: إما ينظّفها رؤساؤها في اول الطريق او في منتصفها كي لا تصل بهم الى نهايتها
ما حدث في التيار الوطني الحر باخراج ثلاثة من نوابه من عضويته، حدث قبل عقود بما يماثله. في 18 تشرين الاول 1984 فصَلَ حزب الكتائب اثنين من رموزه التاريخية ممّن وعت اجياله وعاشت على صوتيْهما هما لويس ابو شرف وادمون رزق لعدم التزامهما قراره التصويت لحسين الحسيني لرئاسة مجلس النواب، وصوّتا لكامل الاسعد وفاء لدعمه وصول كتائبيين اثنين الى رئاسة الجمهورية هما بشير وامين الجميل. بعد ستة اشهر عاد الحزب عن قراره، فلم يعودا اليه مع انهما كانا لاشهر طويلة خلت انقطعا عن اجتماعات حزبهما واعتكفا.واقعة كهذه، كما حدث في التيار الوطني الحر اخيراً، يسهُل توقّعها في الاحزاب اللبنانية معمّرة او شابة عندما تعتاد فكرة «الخلافة» في ترؤسها: ان يُنتخب رئيسها او قائدها مرة واحدة فقط، ثم يُكرَّس صورياً توالي ولاياته على رأس حزبه حتى الممات. قد يُسمي على حياته مَن يخلفه، لكن المؤكد ان الافضل ان يخرج الخلف من بطن العائلة نفسها كي يستأثر بعدذاك بحكم الحزب والامساك بقراراته ومصيره واجياله التالية. فكرة الخلافة هي نفسها فكرة تكريس الصنمية وتالياً تثبيت «التأبيد».
ما لا يمكن تصوّر ما حصل في التيار الوطني الحر ان يحدث في الاحزاب الكبيرة النظيرة المناوئة او الحليفة. ان «يجرؤ» نائب في الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب القوات اللبنانية وحركة امل وحزب الله وتيار المستقبل وصولاً الى حزب الطاشناق بعدما طرد اخيراً احد نوابه جورج بوشكيان للسبب نفسه كما في التيار وهو جلسة 14 حزيران 2023… ان يقدم اي منهم على عصيان قرار رئيس الحزب الذي هو قرار الحزب ويتوقع احتفاظه بموقعه. ان يُستنتَج من التمرد على القرار مسّ هيبة رئيسه وإمرته عليه. سوابق حزب الكتائب وفيرة في البرلمان والحكومة. آخرها ما حدث في 20 حزيران 2016 بفصل وزيره الراحل سجعان قزي من عضويته لعدم التزامه قرار الاستقالة من حكومة الرئيس تمام سلام قبل ستة ايام. عندما يورث الآباء ابناءهم احزابهم على حياتهم تظل مرجعية الزعامة والسياسة عندهم هم، لا لدى خلفائهم كما مع وليد جنبلاط وسليمان فرنجية. وحده الرئيس امين الجميل اختار الانكفاء والانقطاع الكلي عن حزبه لابنه رئيسه الحالي سامي الجميّل.
ما حدث في التيار الوطني الحر هو المعتاد والطبيعي ان يحدث. وان لا يحدث نقيضه. وجود النائب جبران باسيل على رأسه ليس الا على صورة رؤساء الاحزاب المماثلة، مع انه احدثهم عمراً بانتخاب للمرة الاولى عام 2015، ثم من بعد مرتين اخريين. اطولهم عمراً جنبلاط الاب 46 عاماً (مرته الاولى 1977) فبرّي 44 عاماً (مرته الاولى 1980)، فسمير جعجع 38 عاماً (مرته الاولى 1986) فالسيد حسن نصرالله 32 عاماً (مرته الاولى 1992). منذ ان اصبح الرئيس ميشال عون في المنفى عام 1991 صار قائد تياره طوال 24 عاماً حتى تنحيه. ليس الحزبان الآخران الاكثر ضموراً في الوقت الحالي، وهما حزب الكتلة الوطنية وحزب الوطنيين الاحرار، احسن حالاً: ريمون اده ثاني عمداء الاول بعد ابيه منذ عام 1949 حتى رحيله عام 2000 خلفه ابن شقيقه كارلوس حتى عام 2021 تاركاً اياه بين ايدي ادارة جديدة، والنائب كميل دوري شمعون خلف اباه دوري الذي خلف اخاه داني بعد اغتياله، والذي بدوره خلف الرئيس الاب الرئيس كميل شمعون عام 1985. تيار المستقبل الاكثر ضياعاً. مؤسّسه الرئيس رفيق الحريري ترأسه تسع سنوات بين عامي 1996 و2005 خلفه نجله الرئيس سعد الحريري تاركاً اياه منذ عام 2023 مسيَّباً. مخلّع الابواب. بلا ناطور. مشتت القاعدة ومستولى عليها. بالكاد تعثر عليه بينها مرة في السنة.
تباعاً خرج النواب الياس بو صعب وآلان عون وسيمون ابي رميا من التيار الوطني الحر لاسباب تراكمت في السنوات الاخيرة. اول اصولها انتخاب باسيل رئيساً للحزب، ثم السنة التالية انتخاب المؤسس رئيساً للجمهورية وتحوّل صهره رئيس ظل وتحميله مسؤولية اخفاقات الولاية، وصولاً الى الانهيار شبه الشامل في البلاد، الى ان كانت المحطة الاخيرة قراره رفض ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية ومن ثم تقاطُعه مع المعارضة على ترشيح الوزير السابق جهاد ازعور. الاسباب الموازية مآخذ على طباع باسيل ومزاجه وطريقة ادارته التيار واستئثاره. في نهاية المطاف لا يملك حزب محدث، مقتدياً بتلك التي تحوط به، الا ان يكون على صورتها.
ما حدث يشير الى بضع ملاحظات ربما تُعدّ قاعدية:
اولها، الدور الحاسم للرئيس ميشال عون في قرارات التخلص من النواب الثلاثة، سواء الاثنين الاوليْن المفصوليْن او ثالثهما مستبقاً باستقالته ما يُفترض ان يلي. هو رئيس مجلس الحكماء يوصي بالقرار كي يصدره رئيس الحزب. بيد انه اكثر المعنيين باطلاق يد باسيل في كل ما يفعل بدءاً بترئيسه الحزب قبل وصوله الى الرئاسة وصولاً الى الدور المرجح الذي منحه اياه ابان الولاية في كل شأن ارتبط بها، ليس اقلها تأليف حكومات العهد ولا ملفاته وسياساته وتحالفاته وعداواته. ليس ذلك سوى دليل اضافي على التمسك بالمغزى الرمزي للمرجعية التاريخية في الحزب، سواء لما تزل على قيد الحياة او اقتُدي بصورتها، للتذرع بالاجراء المتخذ وتبرير شرعيته وجرأته وتقبّل القاعدة له.
ما حدث في التيار الوطني الحر هل يُتصوَّر في احزاب زعماء الطوائف؟
ثانيها، شأن اي حزب آخر مشابه، لا يملك العضو سوى التزام قراره والانصياع الاعمى له ما ان يصدر رسمياً. إما يكون داخله فينفذه او يستقيل ويتخذ الخيار المنفرد.
ثالثها، في المنطق الرائج في الاحزاب اللبنانية ان العضو كما النائب والوزير، يدين لرئيسه بكل ما يصل اليه. قلما اظهرت سوابق مشابهة لخارجين من احزابهم ان تمكنوا من بناء حيثيات مختلفة عن تلك التي منحهم اياها تصويت القاعدة الحزبية لهم. لا يعدون اذذاك سوى حزبيين سابقين اكثر منهم قادة جدداً. خروجهم يوصد دونهم ابواب التحالفات.
رابعها، من غير المؤكد ان للاوائل ان يعيشوا دائماً والى الابد في احزابهم، وهم حتميون فيها لا يستغنى عنهم، او لا ينبغي تقويض حقبتهم حتى واستبدالها. بل ما يقتضي ان يكون صحيحاً ان تقتل اجيال الوارثين اجيال الآباء المؤسسين. ذلك ما خبرته تجربة جنبلاط الاب ثم جنبلاط الابن، وجعجع بعد السجن عما كان قبله، والجميل الابن بمَن يحوط به ليس بينهم رجال ابيه، انتهاء بالحريري الابن.
نقولا ناصيف