عبد الباري عطوان
القرار الشّجاع بقيادة حركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” بمُقاطعة مُفاوضات الدوحة، وإصرارها على تطبيق الاتّفاق الذي عرضه الرئيس الأمريكي جو بايدن ورفضه نتنياهو، قرارٌ صائب، ينطوي على الكثير من الكرامة والصّلابة، ويُميّز بين هذه القيادة، ومُعظم نظيراتها العربيّة “المضبوعة” إسرائيليًّا” وتُحرّكها الإدارة الأمريكيّة بـ”الرّيموت كونترول” وتفرض عليها إملاءاتها.
هذه المُقاطعة الحاسمة و”العنيدة” في الحق، تأتي تجسيدًا للمثل العربيّ الذي يقول “الحجر في مطرحه قنطار”، ويعكس فشلًا ذريعًا للتّهديدات الأمريكيّة، والضّغوط المُكثّفة التي مارَسها الوُسطاء العرب على مدى الأشهر العشرة الماضية من عُمُر العُدوان الإسرائيلي على القطاع لترويض هذه القيادة، وتدجينها، وإيقاعها في مِصيَدةِ الخِداعِ والتّضليل.
هذا المُفاوضات التي يرعاها وليم بيرنز رئيس المُخابرات الأمريكيّة الآن في الدوحة، جرى ترتيب انعِقادِها على عجل، وبهدف وقف، أو تأجيل، رد محور المُقاومة بقيادة إيران على الاغتيالات الإسرائيليّة التي استهدفت الشهيد إسماعيل هنية، والسيّد فؤاد شكر رئيس هيئة أركان قوّات “حزب الله”، ولكن فُرص نجاحها تبدو محدودة جدًّا، إن لم تكن معدومة، لسببٍ بسيط وهو أنّ نتنياهو يُقدم على هذه الاغتيالات مُتَعَمِّدًا وفي إطار استراتيجيّة تهدف إلى تفجيرِ حربٍ إقليميّة تتورّط فيها أمريكا وحُلفاؤها الغربيّون دفاعًا عن كيانه المهزوم، وإنقاذه من حالةِ الانهيار التي يعيشها حاليًّا، وبشَكلٍ مُتسارعٍ على الصُّعُدِ كافّة.
حتّى إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطيّة لا تُريد وقف الحرب أيضًا، وإنْ ادّعت ذلك، ولا تجرؤ على مُمارسة أيّ ضُغوط على نتنياهو وحُكومته، بل ترضخ مفتوحة العينين، وبأدنى أنواع الذُّل، لكلّ إملاءاته، ومطالبه، وآخِرها إرسال فوري لما قيمته 20 مِليار دولار من المعدّات العسكريّة الأحدث، ومن بينها طائرات الشّبح (إف 35) وقذائف عملاقة بقُدراتٍ تدميريّةٍ هائلة، قادرة على اختراق التّحصينات الأرضيّة الجبليّة حيثُ تُوجد المُفاعلات والمُنشآت النوويّة الإيرانيّة.
المُجاهد يحيى السنوار الذي يُدير المعركة بشقّيها العسكري والسياسي من أحد الأنفاق في قطاع غزة، أثبت أنه القائد العربي والإسلامي الوحيد الذي لا يخاف أمريكا، ولا دولة الاحتلال، ولا يُعير أيّ اهتمام للقيادات العربيّة المرعوبة المُستَسلِمَة، ويرفض التّعاطي معها تمامًا مثلما يرفض التّعاطي مع نُظرائها الإسرائيليين إلّا بلُغة القوّة والمُواجهة العسكريّة في ساحات المعارك.
نتنياهو اعتقد أنّه بارتكاب مجزرة مدرسة حي الدرج في غزة، واغتيال الشهيد إسماعيل هنية يستطيع أن يُرهب المُقاومة، ويُملي شُروطه على قيادتها في القطاع، مثل إبقاء قوّاته العُدوانيّة في محور صلاح الدين (فيلادلفيا) على الحُدود المِصريّة- الفِلسطينيّة، والاحتفاظ بحقّه في غزو القطاع في أيّ وقتٍ يشاء، ونصب مراكز تفتيش في محور نتساريم لمنع عودة المُقاتلين إلى شِمال القطاع، ولكنّ النّتائج جاءت عكسيّةً تمامًا، وأبرزها عناوينها عدم المُشاركة في “مهزلة” المُفاوضات، والإصرار على تطبيقٍ فوريٍّ وحرفيٍّ لما جرى التوصّل إليه في آخِر جولاتها، عشرة أشهر من القصف وحرب الإبادة وعشرات الجولات، لم تُقدّم قيادة المُقاومة تنازلًا واحدًا، بينما جرى فرض اتّفاقات كامب ديفيد وأوسلو والتطبيع في أيّام، وربّما ساعات معدودة.
ولا نعرف، ولا نفهم، كيف يُشارك “الوُسطاء” العرب (مِصر وقطر) في جولة المُفاوضات الحاليّة دون أي شُروط، بعد اغتيال الشّهيد هنية، وارتكاب نتنياهو مُتعمّدًا مجزرة حي الدرج التي استشهد فيها أكثر من 120 شهيدًا كانوا يُصلّون الفجر، ومعهم بعض أطفالهم، تحوّلوا إلى جثامينٍ مُتفحّمة بفعل الصّواريخ الخمسة الأمريكيّة الصُّنع التي قصفت مسجدهم المُؤقّت في المدرسة.
هذا الإذعان العربيّ للأوامر الأمريكيّة وهرولة قادة أجهزة المُخابرات العربيّة لتوفير الغِطاء للمسرحيّة التّفاوضيّة الأمريكيّة المُستمرّة مُنذ عشرة أشهر، هو الذي يُشجّع الإدارة الأمريكيّة على الاستمرار فيها، وتوفير الحماية للكيان ومجازره واغتِيالاته وبيع الوهم للعرب.
نتمنّى على بعض القادة العرب الذين يصفون المُجاهد السنوار وأبناء قطاع غزة بالجُنون مثلما قال في مُقابلته التلفزيونيّة اليتيمة قبل عدّة سنوات، أنْ يُحدّثونا عن إنجازات، حكمتهم، وعقلانيّتهم، ولعقهم لأحذية نتنياهو، وجِنرالاته، وإيصال كُل احتياجاتهم من الخُضار والفاكهة الطّازجة في جُسورٍ بريّة، بينما لا يستطيعون إدخال كيس دقيق واحد أو زجاجة ماء وعُلبة دواء لأهلنا في قطاع غزة.
فعندما يتدفّق إلى المِنطقة أكثر من أربعة مبعوثين أمريكيين أبرزهم وليامز بيرنز رئيس المُخابرات المركزيّة وعاموس هوكشتاين المُجنّد السّابق في الجيش الإسرائيلي، وبريت ماكغورك مُهندس الحِصار على سورية وإيران، فإنّ هذا التدفّق يعكس حالة من الرّعب والقلق والحِرص الأمريكي على استمرار العُدوانيّة الصّهيونيّة ومجازرها والتّعاطي مع العرب وقادتهم كأغبياء من السّهل خِداعهم، وتضليلهم، وإرهابهم بالتّهديدات بحاملات الطّائرات والغوّاصات النوويّة التي لم تُحرّك شعرة في رأس “أبو يمن” الذي دخل التّاريخ كأوّل رَجُل شُجاع مُقاتل لا يتردّد بقصفها وزلزلة مياه البحرين الأحمر والعربي تحتها، وإعطابها.
من حقّ المُجاهد السنوار أن يمد رجليه بكُلّ ثقةٍ وهو يُتابع من مركز قيادته تحت الأرض، وحوله مُساعدوه الجبابرة مِثل محمد الضيف، ومروان عيسى، الذين عجزت كُل مُخابرات أمريكا وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا في الوصول إليهم طِوال الأشهُر العشرة الماضية، هذا المُجاهد في رأينا المُتواضع لا يستحق قيادة الشّعب الفِلسطيني فقط، وإنّما الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة، ومن وصفه بأنّه صلاح الدين الثاني لم يُخطِئ مُطلقًا.. والأيّام بيننا.