أخبار عربية ودولية

أول «استقالة ضمير» في بريطانيا: تصدير السلاح شراكة في «الإبادة»

لندن | شكّك مسؤولون بريطانيون، كما صحف محلية، في أن تجرّ استقالة الديبلوماسي الرفيع، مارك سميث، من منصبه، مزيداً من «استقالات الضمير» في الأجهزة المدنية للنظام البريطاني، على رغم توسّع الجدل الأخلاقي حول تورّط رسمي للمملكة المتحدة في جرائم حرب يومية يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. وكان سميث، الذي عمل في وزارة الخارجية البريطانية، قد تقدَّم باستقالته من منصبه سكرتيراً ثانياً في سفارة بلاده في دبلن، احتجاجاً على استمرار مبيعات السلاح إلى إسرائيل، والذي «يضع حكومة لندن في موقع التواطؤ في جرائم حرب».وعبّر الديبلوماسي، في خطاب استقالته الذي نَشر نسخة منه عبر موقع «إكس»، عن إحباطه المتزايد إزاء سياسة تصدير السلاح في المملكة، مشيراً إلى أن ادعاءات الحكومة أمام العموم بامتلاك أحد أكثر أنظمة ترخيص تصدير السلاح «فاعلية وشفافية في العالم»، ترتقي إلى درجة «التضليل المتعمّد». كذلك، ذكر أن الوزارة تجاهلت مخاوفه التي عبّر عنها مرّات عدة عبر القنوات المعتمدة – بما في ذلك آلية رسمية للإبلاغ عن المخالفات – في شأن انتهاكات محتملة للقانون الإنساني الدولي، بسبب استمرار الحكومة البريطانية في منْح تراخيص تصدير السلاح إلى كيان الاحتلال، على رغم استمرار ممارسات الجيش الإسرائيلي الإجرامية في قطاع غزة، وهو ما لم يترك أمامه أيّ خيار سوى التنحّي. وكتب سميث: «يثقل قلبي الحزن لأن أستقيل بعد مهنة طويلة في السلك الديبلوماسي، ومع ذلك، لم يَعُد بإمكاني القيام بواجباتي مع معرفتي بأن هذه الوزارة قد تكون متواطئة في جرائم حرب». وقال الديبلوماسي الذي عمل سابقاً في تقييم تراخيص تصدير السلاح إلى الشرق الأوسط ومكافحة الإرهاب، إنه وزملاءه يشهدون «كل يوم» على أمثلة واضحة لا لبس فيها على «جرائم حرب» يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، متّهماً قيادات الكيان – المدنية والعسكرية – بالإعراب علناً عن النيّة في ارتكاب إبادة جماعية تَنتهك القانون الإنساني الدولي. وكتب: «لقد هُدمت شوارع وجامعات بأكملها، ومُنعت المساعدات الإنسانية، وتُرك المدنيون الفلسطينيون بانتظام من دون مأوى آمن يفرّون إليه، وتعرّضت سيارات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر لهجمات، واستُهدفت المدارس والمستشفيات بشكل ممنهج. هذه جرائم حرب».
من جهتها، نقلت الصحف البريطانية عن مصدر مقرّب من سميث قوله إن الأخير لم يستقل علناً، بل بعث بنصّ استقالته عبر البريد الإلكتروني الرسمي لوزارة الخارجية إلى موظفين حكوميين، ولكن يبدو أن بعض هؤلاء وزّعوا النصّ على نطاق واسع ليصل إلى مئات من الموظفين في المركز في لندن، كما السفارات، والمستشارين الخاصين للوزراة، قبل أن يتسرّب إلى صحافية نشرته عبر صفحتها على موقع «إكس». وبعد انتشار خبر الاستقالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصدر سميث بياناً دعا فيه الحكومة البريطانية إلى «مراجعة نهج المملكة المتحدة تجاه الوضع في غزة بشكل عاجل، والاستماع إلى مخاوف موظّفي الخدمة المدنية المعنيين بهذا الخصوص»، حاثّاً وزير الخارجية، ديفيد لامي، على أن يجري «التغييرات اللازمة».

يشتري الجيش الإسرائيلي، بشكل منتظم، قطع غيار تنتجها مصانع بريطانية للطائرات المقاتلة الأميركية الصنع


وفي هذا الإطار، اعتبر إيان أوفرتون، المدير التنفيذي لـ»منظمة العمل ضدّ العنف المسلح»، التي تدعم حظراً لتصدير السلاح البريطاني إلى إسرائيل، في بيان له على موقع المنظمة، استقالة سميث «بمثابة إدانة عميقة لسياسات تصدير السلاح في المملكة المتحدة، وينبغي أن تؤدي إلى إعادة تقييم جادة للمسؤوليات الأخلاقية التي تأتي معها»، مشيداً بالشجاعة الهائلة التي أبداها الديبلوماسي الرفيع للوقوف ضدّ نظام متواطئ في معاناة المدنيين الفلسطينيين.
ولكن وزارة الخارجية البريطانية رفضت التعليق على الاستقالة، على اعتبار أنها «حالة فردية»، وإنْ قالت إن لندن «ملتزمة بتطبيق القانون الإنساني الدولي»، وإنها لن تأذن بتصدير معدات يمكن استخدامها لـ»ارتكاب أو تيسير انتهاكات لهذا القانون». وأكدت مصادر رسمية، تحدثت باسم الوزارة، أن هنالك «عملية مراجعة تجرى حالياً لتقييم ما إذا كانت الممارسات الإسرائيلية تنتهك القانون الإنساني الدولي، وهي عملية كان قد أطلقها وزير الخارجية الجديد في اليوم الأول لتسلّمه منصبه». ووعدت المصادر بـ»تقديم تحديث للعموم بمجرّد استكمال المراجعة تلك».
ويعتمد الجيش الإسرائيلي بشكل رئيسيّ على منظومة السلاح الأميركية، لكنّه يشتري، بشكل منتظم، قطع غيار تنتجها مصانع بريطانية للطائرات المقاتلة الأميركية الصنع، فضلاً عن تقنيات رادار عسكرية متقدّمة، ومعدات للحرب الإلكترونية. وبحسب تقارير رسمية منشورة، فإن المملكة صدّرت إلى كيان الاحتلال أسلحة وقطع غيار لطائرات عسكرية تزيد قيمتها على 576 مليون جنيه استرليني منذ عام 2008، فيما منحت الحكومة 42 ترخيصاً جديداً لغايات مماثلة بين السابع من أكتوبر ونهاية أيار الماضيَين. ولا تشمل هذه الأرقام صادرات غير تجارية قد ينقلها الجيش البريطاني مباشرة من مستودعاته إلى قواعد الجيش الإسرائيلي.
وكانت حكومة «حزب المحافظين» السابقة قد تجاهلت ضغوطاً من قِبَل نواب في مجلس العموم ومنظمات مجتمع مدني مناهضة للحروب لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وكذلك أهملت مشورة قانونية من محاميها خلصوا فيها إلى أنه في حال ثبوت ارتكاب الكيان جرائم حرب في غزة، سيتعيّن تعليق تراخيص التصدير لتجنُّب خطر اتهام المملكة بالتواطؤ في انتهاكات للقانون الدولي، وقرّرت في مراجعات سابقة (كانون الأول 2023، ونيسان 2024) عدم تعليق التصاريح الممنوحة سابقاً أو التوقّف عن إصدار تراخيص جديدة لتصدير السلاح إلى تل أبيب، على أساس أنه «لا يوجد في الوقت الحاضر أيّ خطر واضح لناحية أن المعدات المصدّرة إلى جيش الدفاع الإسرائيلي قد تُستخدم لارتكاب أو تسهيل انتهاك خطير للقانون الإنساني الدولي»، على حد تعبير وزير التجارة والأعمال السابق، كيمي بادينوش.
ويدعم نواب في مجلس العموم من «الحزب القومي الاسكتلندي» و»الديموقراطيون الليبراليون» ونواب مستقلّون، دعوات إلى حكومة «حزب العمل» الجديدة لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل. ويُعتقد أيضاً أن قواعد الحزب الحاكم، بما في ذلك نقابات العمال، تدعم في أغلبها توجّهاً كهذا. لكن مطّلعين على تفاصيل الجدل الدائر في فضاء الحزب قالوا إنهم غير متفائلين بقدرة الحكومة على اتخاذ قرار صريح في هذا الخصوص، بحكم أن أكثر من نصف الوزراء فيها يتلقّون دعماً مالياً مباشراً – تحت مسمّى تبرعات – من منظمات ضغط تتبع اللوبي الصهيوني في بريطانيا. وتشمل قائمة المستفيدين رئيس الوزراء كير ستارمر، ونائبته أنجيلا راينر، والمستشارة راشيل ريفز، ووزير الخارجية ديفيد لامي، ووزيرة الداخلية إيفيت كوبر، وكذلك جوناثان رينولدز، الموكل بإصدار تراخيص تصدير السلاح إلى الكيان بحكم منصبه وزيراً للتجارة، وباتْ مكفادين الموكل بمهام الأمن القومي. وقُدّمت بعض التبرعات التي تبلغ قيمتها مئات الآلاف من الجنيهات الاسترلينية من قِبَل منظمة «أصدقاء إسرائيل في حزب العمل»، وهي مجموعة ضغط تنظّم زيارات لنواب الحزب الحاكم ومستشارين للحكومة إلى إسرائيل تحت غطاء بعثات «لتقصي الحقائق»، كما من تريفور تشين وستيوارت رودن، وهما رجلا أعمال يهوديّان يدعمان الحركة الصهيونية ويدينان بالولاء لإسرائيل.

سعيد محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *