أي مؤشر لقياس “مستقبل الحرب”: السياسيون أم برامج الطيران المدني؟!
بعيدا من التفاصيل اليومية والوقائع التي بلغتها الحرب في قطاع غزة والساحات المواكبة لها منذ عشرة اشهر ونيف وما يرافقها من تطورات ميدانية بقيت التوقعات دون ما هو منتظر من عمليات عسكرية غير تقليدية. أما وقد تعددت السيناريوهات التي يمكن الاعتماد عليها لقياسها واستكشاف مستقبلها، وبعد ان طرحت الاسئلة عن المؤشرات التي تدل إليها، وإن تناقضت المواقف والتهديدات السياسية المتداولة، هل يمكن الاعتماد على استراتيجيات شركات الطيران المدنية العملاقة؟
أجمعت مراجع سياسية وديبلوماسية على رد فشلها في توقع ما يمكن ان تقود اليه التهديدات بـ”الحرب الواسعة” في المنطقة على وقع “الحرب الدائمة” السائدة منذ 10 أشهر ونصف شهر جراء تفاقم الوضع في قطاع غزة وجنوب لبنان، الى حجم التناقضات التي عكستها المفاوضات الاخيرة المتنقلة بين الدوحة والقاهرة. وما عزز هذا الاعتقاد هو المخاوف الناجمة من انهيار سلسلة المبادرات التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن وتبناها مجلس الأمن الدولي في 10 حزيران الماضي وما انتهت اليه المبادرة الثلاثية التي اطلقها زعماء واشنطن والقاهرة والدوحة تزامنا مع انتخاب يحيى السنوار رئيس للمكتب السياسي لحركة “حماس” بعد اغتيال سلفه اسماعيل هنية في طهران، بفارق ساعات قليلة تلت اغتيال القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وما زاد من اقتناع الخائفين من مستقبل التطورات العسكرية والهواجس الناجمة من حرب واسعة لا يمكن تقدير ما يمكن ان يرافقها إن اندلعت، وما يمكن ان تنتهي اليه، ان تركت الساحة خالية امام القادة العسكريين من كل الأطراف المتنازعة. وهي خطوة ستسمح لهم بالتصرف بما يمتلكونه من أسلحة تدميرية وفتاكة. وخصوصا ان كل هذه المؤشرات تزامنت مع موجة من التهديدات التي أعقبت الاغتيالات الاخيرة وخروجها عن المألوف في نظر اركان “محور الممانعة” وابقائها من ضمن “قواعد الاشتباك” وفق النظرة الاخرى. فالاول هدد بصراحة بـ “رد مزلزل” قد يؤدي الى حرب شاملة لا يريدها أي من الأطراف من أركانه كما من رعاة “الحلف الدولي”. وهو امر يدعو الى البحث عن الظروف التي دفعت الى تقديم “عروض القوة” التي قدمها الطرفان بعد استعراضهما الأخير في مناورات ايران الكبرى على اراضيها وكشف حزب الله عن ترسانة صواريخه المحصنة في باطن الجبال اللبنانية في مقابل الترسانة البحرية النووية التي نقلتها واشنطن الى شرق المتوسط.
وبعيدا مما هو متداول من سيناريوهات مرعبة، ثمة من يدعو الى الخروج عن المنطق المعتمد حتى اليوم. فالتردد في رد فعل إيران وحزب الله بعد طول انتظار الرد من الحوثيين بعد “عملية الحديدة” يدعو الى اعادة تقييم المرحلة وظروفها. فليس صحيحا ان ما يناقش في الكواليس السياسية والديبلوماسية الدولية متوقف على ما هو معلن من أهداف. وهو امر يجدر التوقف عنده على الجبهتين معا وفق المعطيات الآتية:
– ان الحديث عن فشل اسرائيل في تحقيق الاهداف المعلنة لعمليتها في قطاع غزة منذ إطلاقها عملية “الأسوار الحديدية” ردا على عملية “طوفان الاقصى” وحصرها بالقضاء على حماس وتفكيكها لم يعد كافيا بعدما حققته ضرباتها، وقد تجاوزت التطورات مثل هذه الوقائع وتحولت حجة بنيت عليها سيناريوهات اسرائيلية اخرى. والأخطر أنها باتت تهدد الامنين الإقليمي والدولي وربما طاولت مقتضيات اتفاقيات “كمب ديفيد” مع مصر التي تتحكم بحجم القوة الاسرائيلية على محور فيلادلفيا وجنوب القطاع بما فيها الخاصة بادارة معبر رفح. عدا عن الاهداف الاخرى التي تطالب بها تل أبيب ولا سيما منها وقف البحث نهائيا في مشروع “قيام الدولتين” لتطاول ملفات اخرى اكثر تعقيدا لمجرد تجاهلها ما تحقق من برامج التطبيع وفق “الإتفاقيات الابراهيمية” وما سبقها وتلاها من برامج التوسع بهذه العملية الديبلوماسية الكبرى لتطاول الدول المتبقية في المنطقة ولا سيما منها السعودية التي كانت على أبواب خطوة مماثلة.
– وكذلك فان الحديث عما قام به حزب الله لالهاء اسرائيل وإسناد المقاومة الفلسطينية في غزة قد فقد كثيراً مما يبرر الخطوات العسكرية التي اتخذت حتى الامس. وما توافر من دعم بات من الماضي، وخصوصا أن العملية لم تعكس أي تردد اسرائيلي في تدمير غزة الى درجة بات فيها القطاع غير صالح للسكن، وقد فقد قاطنوه مقومات الحياة كاملة عدا عن حجم المجازر التي ارتكبت وانتهت حتى الى القضاء على 10 % من سكانه باتوا على لائحة الشهداء والجرحى والمعوقين والمفقودين ان صحت المعلومات المتداولة بانها تجاوزت المئتي ألف مواطن من أصل سكانه الذي كان مقدرا بنحو مليوني انسان. هذا بالاضافة الى ما حصده العدوان من ضحايا بين الجنوبيين من لبنانيين وفلسطيين وسوريين والتدميرالممنهج لعشرات القرى الحدودية وهو أمر كان يجب احتسابه قبل الطلقة الاولى.
وأمام هذه الصورة السوداوية، لا بد للمراجع السياسية والديبلوماسية من البحث عن المؤشرات التي يمكن ان تقدم صورة عن “اليوم التالي” ليس في غزة فحسب انما في لبنان ايضا. وهو يوم يبتعد عن كل الحسابات شهرا بعد شهر، الى درجة بات الجميع يدرك ان فقدانه يعود تلقائيا الى نفي وجود أي مؤشر سياسي الى انهاء الحرب. فمثل هذه الخطوة تعطي طعماً سياسياً ثابتا لوقف النار لما يوفره من حماية أي اتفاق كبير يمكن تحقيقه في مرحلة فقدت فيها المفاجآت وبات من سابع المستحيلات.
وعليه لم يعد مفيدا الحديث عن النيات الحسنة، ولم يعد في قدرة اصحاب النية الحسنة ومالكي اسوئها في وقت واحد ان يصدقوا ما أعلنت عنه الادارة الاميركية ومعها الدول الداعمة لها من الخليج العربي وأفريقيا وأوروبا والشرق الادنى من اقتراب التوصل الى ما ينهي الحرب والتفاهم على “اليوم التالي”. فكل المساعي اصطدمت بعوائق لم تكن مفاجئة او خافية على احد. فشروط نتنياهو ليست جديدة ومعها الشروط التي وضعتها “حماس” بعد التعديلات التي أضافها السنوار بقيت من ضمن ما هو متوقع ولم يثبت سوى العجز الدولي عن تقريب وجهات النظر وردم الفجوات بين الطرحين. ذلك ان مفتاح الحل لم يعد في أيدي القوى المحلية بوجود التدخلات الدولية من الحلفين الكبيرين.
وعليه تقول المراجع عينها انه لم يعد هناك أي معيار يستند إليه في قراءة ما هو آت سوى حركة شركات الطيران المدني التي مددت كبرياتها وقف رحلاتها إلى إسرائيل للمرة الأولى في التاريخ المعاصر، والى بيروت وطهران بطريقة رجراجة رد بعضها الى ارتفاع أسعار التأمين على النقل الجوي إلى ما لم يتوقعه أحد. ولكن على من يستند الى هذه المعطيات ان يلتفت الى ما قررته شركات الطيران العملاقة كـ “اميركان ايرلاينز” التي ألغت رحلاتها الى تل ابيب حتى نيسان 2025 وتبعتها شركة الطيران الأميركية “دلتا” التي مددت إلغاء رحلاتها حتى 30 ايلول ومعها شركات اميركية واوروبية اخرى. وهي قرارات زرعت القلق في حسابات المراقبين اكثر من تصريحات القادة العسكريين والسياسيين معا.
جورج شاهين