الحرب أم التلويح بها ؟
لم يكن التعويل على نجاح مهمة وزير الخارجية الأميركية انطوني بلينكن في زيارته التاسعة الى المنطقة منذ إندلاع الحرب على غزة في مكانه. ذلك أن من السذاجة بمكان الإعتقاد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سيقبل بالتوقف هنا إن في غزة وخصوصا في لبنان.
فلنعد قليلا الى الوراء وبالتحديد إلى تشرين الأول الماضي حين وصل الرئيس الأميركي جو بايدن بنحو طارىء الى تل أبيب إثر عملية “طوفان الأقصى”. يومها قال بايدن أن الوقت حان للسماح لإسرائيل بالذهاب الى النهاية. أما الكلام الأوضح فكان لنتنياهو نفسه حين “بشر” بأن وجه الشرق الأوسط سيتغير. والمقصود هنا واضح وهو أن الحرب يجب أن تؤدي الى كسر المعادلة الميدانية بين إسرائيل وإيران، على أن تتم ترجمتها لاحقا من خلال إعادة تشكيل المنطقة.
ومنذ ذلك التاريخ تحركت القوة الأميركية الضاربة لتتمركز في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه كانت الأسلحة والذخائر النوعية الأكثر تطورا وفتكا في العالم تتدفق الى مخازن الجيش الإسرائيلي. كان الهدف واضحا ويقضي بإبعاد إيران من خلال حلفائها عن إسرائيل.
لكن المقاومة الشرسة لحركة “حماس” جعلت تقدم الجيش الإسرائيلي بطيئا وصعبا، وهذا ما أدى الى التشكيك بقدرة الجيش الإسرائيلي على إنجاز الأهداف المرسومة بسرعة. فطول المدة كان ينعكس سلبا على إدارة بايدن في المحافل الدولية وخصوصا على الشارع الأميركي نفسه. وانعكس ذلك على العلاقة السياسية بين بايدن ونتنياهو، ولو أنه لم ينسحب على الدعم العسكري المفتوح. وللتذكير فإن البيت الأبيض كان يحاول ثني إسرائيل عن أهداف ميدانيةعدة لم يمتثل لها نتنياهو. في البداية حاول حصر الحرب بالجزء الشمالي لقطاع غزة، ثم دار نقاش حول المخاطر العسكرية بسبب وجود عدد كبير من الأنفاق، ولاحقا سعى لإيقاف الحرب عند حدود رفح، وأخيراً وليس آخرا منع إسرائيل من الإقتراب من معبر فيلادلفيا. لكن نتنياهو لم يكتف فقط بتجاوز كل هذه الحواجز بل أنه ذهب الى الكونغرس بالإتفاق والتنسيق مع قوى أميركية أساسية ليعود بدعم كامل وواسع يطاول هذه المرة نفوذ إيران في لبنان وسوريا. ويومها ردد المسؤولون الأميركيون أن واشنطن ستدعم إسرائيل في أي خطوة تتخذها في حال تعرضها لهجوم من حزب الله، لكنها ستحجم عن دعمها في حال بادرت هي، ولو أنها لن ستتفهم قيامها بعمليات أمنية.
واتخذ نتنياهو العائد من الولايات المتحدة من صاروخ مجدل شمس الذريعة لتجاوز الخطوط الحمر المرسومة واغتيال أرفع مسؤول عسكري في حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت. وهو كان يريد حشر حزب الله واستدراجه الى ملعبه الامر الذي لم يحصل حتى الساعة. وعلى رغم من ذلك واظبت إسرائيل على رفع مستوى الإستفزاز لفتح الطريق أمام ما تود القيام به. فوفق ما قاله الجيش الاسرائيلي أن العمليات العسكرية الكبرى في غزة انتهت. وفي المقابل فإن حركة “حماس” وفي إقرار ضمني بذلك استعادت أسلوب العمليات الإنتحارية والتي كانت قد وضعتها جانبا منذ انتهاء الإنتفاضة الثانية. ما يعني أنها ستكون البديل من الحرب. وظهرت “حماس” في موقع القادر على اختراق الأمن الإسرائيلي والوصول الى قلب تل أبيب، ولو أن التفجير حصل قبل أوانه ما أدى إلى إصابات محدودة.
وما أثار القلق أكثر ما صرح به الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين بعد زيارة الرئيس السوري بشار الاسد الطارئة لموسكو. يومها “تنبأ” بحماوة قريبة في المنطقة. وهو أرفق ذلك برسالة الى القيادة الإيرانية عبر موفده الخاص الى طهران دعا فيها الى إبقاء سوريا خارج أي نزاع عسكري. وقيل أن السبب يعود الى أن بوتين سمع تحذيرا إسرائيليا مفاده أن دخول سوريا في النزاع سيفتح الباب أمام إسرائيل لاستهداف النظام السوري وبالتالي احتمال سقوطه بسبب الأوضاع الصعبة التي تمر بها سوريا.
في هذا الوقت كانت الإشارات السلبية حول نيات إسرائيل تتراكم. فعدا التدابير الطارئة التي تتخذ في الحروب لجهة ترتيب المنطقة الشمالية لإسرائيل، تم استدعاء نحو 30 ألف جندي إحتياط إضافة الى إجراء مناورات جوية تم خلالها تزويد الطائرات الحربية بالوقود في الجو لثلاث مرات متتالية وهو ما يؤشر الى عمليات جوية في مناطق بعيدة. كذلك تم استقدام حاملة طائرات وغواصة للجيش الأميركي طابعهما هجومي وليس دفاعيا. والأهم تزويد إسرائيل أسلحة وقنابل وذخائر بما يوازي 20 مليار دولار. وإذا كانت حرب غزة بمعناها الواسع قد انتهت وفق الجيش الإسرائيلي فمن البديهي الاعتقاد أن هنالك ساحة حرب أخرى ستتطلب هذه القنابل الكبيرة. وعلينا أن لا ننسى ما قاله وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالنت في عز تساجله مع نتنياهو أنه كان منذ اليوم الأول مع إتخاذ قرار الحرب على لبنان، وهو الذي أعلن منذ يومين أنه يتم نقل التركيز من غزة الى الحدود مع لبنان. وما يقوله الآن ومن دون مناسبة بيني غانتس الوزير السابق المعارض بأنه لا بد من حسم الوضع مع لبنان.
وعلى المستوى الميداني كان معبرا جدا إستهداف مخزن ذخيرة حزب الله في البقاع، وهو ما أوجد له غالانت تفسيرا بأنه لاستباق ما يمكن أن يحصل. كذلك استخدام القنابل الزلزالية للمرة الأولى في الجنوب، إضافة الى جس النبض الميداني من خلال محاولة تسلل مجموعة إسرائيلية الى داخل الأراضي اللبنانية.
وفي الوقت الذي كان بايدن ينعي مهمة وزير خارجيته واضعا اللوم على “حماس” كانت القوات الأميركية المتمركزة شمال شرق سوريا تتلقى معدات عسكرية جديدة إضافة الى أمور لوجستية. وفي الوقت نفسه كانت تجري تدريبات مشتركة مع ” قوات سوريا الديموقراطية” (“قسد”) بالأسلحة الثقيلة والذخيرة الحية.
هي صورة ملبدة ضاعف من سوادها ما يتناقله الديبلوماسيون من أن وزير الدفاع الإسرائيلي يحمل توصية بضرورة بدء العمليات العسكرية قبل نهاية شهر آب الجاري. ويهمس هؤلاء قائلين: “إنها الأيام العشر الأخطر على لبنان”.
وفي المقابل رفع حزب الله من درجة جهوزيته الى الحد الأقصى. ففي الوقت الذي أخلى مراكزه المعروفة عمد الى تبديل مواقع مسؤوليه الكبار الى أماكن جديدة لا أحد يعرفها. وهو في الوقت نفسه يستهدف مراكز الاستطلاع والرقابة لدى الجيش الإسرائيلي ويعمد الى البدء بإستخدام ما كان محظورا في السابق مثل صواريخ أرض ـ جو. ولكن من الواضح أنه يحرص على عدم منح إسرائيل الذريعة التي تطلبها لبدء عدوانها.
ووفق هذه الصورة هنالك من “يبشر” بأن الحرب على قاب قوسين من الحصول. وقد يكون هذا الإستنتاج منطقيا، لكن اللعبة مع الإسرائيليين تكون أكثر مكرا وربما تتطلب أعصابا باردة لا بل فولاذية. فماذا لو كان المقصود التلويح بالحرب لا الإنزلاق في اتجاهها. فالجيش الإسرائيلي الذي أخذ دروسه من الحرب الصعبة في غزة، في حاجة الى فترة لا بأس بها من أجل إعادة الترميم والتحضير. ربما قد يندفع في اتجاه تنفيذ عمليات قصف شديدة القوة تعزز الإيحاء بأن الحرب البرية واقعة لا محال، وبحيث تؤدي ذروة القصف الى انتزاع اتفاق سياسي كامل متكامل يلحظ ترتيبات جديدة وجدية في الجنوب.
في هذه الحالة يكون التلويح بالحرب والمترافق مع رفع مستوى حماوة القصف الحاصل أكثر إنتاجا من الحرب المفتوحة التي تكون كلفتها عالية، وغالب الظن غير مضمونة.
جوني منير