عن جامعات استحالت سجوناً: حَراك مناصرة غزة (لا) ينطفئ
عادت الفعاليات التضامنية مع غزة إلى داخل الجامعات الأميركية، وعلى رأسها «كورنيل» و«بنسلفانيا» و«ميشيغان»، متزامِنةً مع انطلاق الفصل الدراسي الجديد، لتتصدّر عناوين المشهدَين، الإعلامي كما السياسي، في الولايات المتحدة. على أن هذا الحراك الطالبي، الذي حافظ على مكانته كواحد من أبرز عناصر ذلك المشهد على مدى أشهر، وبقيت تبعاته ماثلة حتى الأمس القريب، ومن أبرزها الاستقالة المفاجئة لرئيسة جامعة «كولومبيا»، نعمت شفيق، في آب الماضي، لا يزال يحيط به قدْر من التحديات والرهانات. تحدياتٌ تتّصل إلى حدّ بعيد بالسياسات التنظيمية والتدابير الأمنية الجديدة التي بات يعتمدها قسم كبير من تلك الجامعات، وبتبدّل، وإنْ نسبي، في مزاج الطلبة، بخاصة الجدد منهم، في موازاة رهانات على أكثر من صعيد، إنْ من منظور حقوقي يحمل عبأه الطلاب أنفسهم، أو من منظور سياسي يغمز منه «الحزب الجمهوري» تحديداً.
رهانات طالبية… و«جمهورية»!
جدّد الناشطون المتضامنون مع غزة، في الأيام الماضية، تعهداتهم باستكمال حملتهم المطلبية للضغط على جامعاتهم من أجل قطع روابطها الأكاديمية والمالية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي. وجاء ذلك في ظل ورود أنباء عن فض الشرطة فعاليات تضامنية مع فلسطين في محيط عدد من المؤسسات التعليمية، على غرار «كولومبيا» التي تُعدّ نقطة انطلاق «حراك الجامعات»، حيث تم طلاء «تمثال ألما ماتر» أمام كلية القانون باللون الأحمر، كدلالة على اتهام الإدارة بالتورّط في الجرائم الإسرائيلية في غزة، وكذلك «ميشيغان» التي شهدت تظاهرات مؤيدة للفلسطينيين وأخرى مناصرة للإسرائيليين.
وبحسب محلّلين، فإنّ القائمين على الحراك الطالبي يرغبون في إعادة الزخم إليه، وسط انشغال الرأي العام الأميركي، ولا سيما فئة الشباب، بالاستحقاق الانتخابي في تشرين الثاني المقبل، ومحاولة شريحة واسعة من الأميركيين تحديد موقفها من برامج المرشحين في قضايا حياتية أخرى، كالوضع الاقتصادي، وسياسة الإسكان وغير ذلك من عناوين. وفي هذا السياق، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أن الحراك أصبح «مفتقداً إلى الشعبية»، معتبرة أن «الحرب في غزة لم تكن في واقع الأمر ضمن أولويات الناخبين (الأميركيين) الشباب» في الآونة الأخيرة، فيما أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه موقع «بوليتيكو»، بالتعاون مع شركة «مورنينغ كونسلت»، في أواخر أيار الماضي، أن 71% من المستطلعين تراوحت آراؤهم بين مَن رأى أن المحتجين داخل الجامعات «على خطأ بالمطلق»، وبين مَن قال «إنهم على حق ولكنهم يتمادون في تحركاتهم». أيضاً، أعربت نسبة مشابهة من المستطلعين عن تأييدها ما بدر عن إدارات بعض الجامعات الأميركية من تدابير لطرد طلبة شاركوا في الاحتجاجات التضامنية مع غزة، بدعوى مخالفتهم للقوانين أو لسياسات تلك الجامعات. وبالاستناد إلى الاستطلاع نفسه، فإن هناك «شريحة ضيّقة نسبياً من الناخبين، ممَّن يتميزون بدرجة عالية من الإدراك والوعي حيال تلك الحرب»، وما صاحبها من حديث عن صعود ظاهرتَي «معاداة السامية» و«الإسلاموفويبا» في جامعات الولايات المتحدة.
القائمون على «الحراك الطالبي» يرغبون في إعادة الزخم إليه، وسط انشغال الرأي العام الأميركي بالاستحقاق الانتخابي
وفي أوج اندفاعة إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى إشاعة أجواء تفاؤلية في شأن فرص التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، لمّحت «نيويورك تايمز» إلى وجود علاقة سببية بين مسار الحرب الدائرة في غزة، وطبيعة ونمط التحركات التي قد يعتمدها الناشطون الداعمون لفلسطين في الجامعات الأميركية في الفترة المقبلة. على أن المفارقة هي أن رهان هؤلاء على استعادة زمام المبادرة، يتقاطع مع تطلُّع «معسكر الجمهوريين»، بعدما تعهّد مرشحوهم في برامجهم الانتخابية بـ«إعادة الأمن والروح الوطنية» إلى حرم الجامعات، إلى توظيف الاحتجاجات الطالبية ضدّ خصومهم ليس فقط داخل البيت الأبيض، بل أيضاً في مؤسسات التعليم العالي الأميركية، التي لطالما وصفها مناصرو دونالد ترامب، بـ«الأداة التخديرية لإدخال تعاليم الاشتراكية» إلى البلاد. وهو توظيف يستهدف «تصوير (خصومهم) الديموقراطيين كضعفاء، وإضعاف زخم» حملة مرشحتهم الرئاسية، كامالا هاريس، من جهة، وكذلك «اتهام أعضاء هيئة التدريس (في الجامعات) بعدم بذل ما يكفي من الجهود للوقوف في وجه ظاهرة معاداة السامية»، من جهة ثانية.
جدلية «حرية التعبير» و«حماية الطلبة»
على مدى الأشهر الماضية التي تلت فض احتجاجات الحراك الطالبي، بصورة قمعية، ودموية أحياناً، ووصلت إلى حدّ طرد عدد من الطلبة، استبقت معظم الجامعات الأميركية العام الدراسي الجديد، بإدخال تعديلات على سياساتها وقوانينها التنظيمية، وخصوصاً ما يتعلق منها بـ«الإجراءات التأديبية» بحق المتظاهرين داخل الحرم الجامعي، ومكافحة ما يسمى «خطاب الكراهية»، فضلاً عن فرضها تدابير أمنية جديدة في داخلها، تتولّاها بالتعاون مع أجهزة الشرطة. فعلى سبيل المثال، حظرت إدارة جامعة «كاليفورنيا» إقامة مخيمات اعتصامية داخل حرمها، أو ارتداء أقنعة وسوى ذلك من أفعال بقصد إخفاء الهوية أو الوجه، وهي تدابير مماثلة لِما اعتمدته إدارة جامعة «كولومبيا» التي أقرّت، بدءاً من تموز الماضي، تقييد فرص دخول أيّ طلاب لا يحملون بطاقة جامعية، عبر إخضاعهم لعملية تفتيش وانتظار طويلة، وبادرت إلى إحاطة المساحات الخضراء في الحرم الجامعي بأسلاك شائكة، رغم تشديدها على «احترامها حرية التعبير»، بشرط «عدم مخالفة سياسة الجامعة».
أما جامعة «بنسلفانيا»، فقد قرّرت إدارتها منْع التخييم والتظاهرات الليلية داخل حدود الحرم الجامعي، وفرضت حصول أيّ فعاليات تُجرى داخل حرمها على أذونات مسبقة، مبرّرة قرارها بداعي «الحرص على سلامة الطلبة والموظفين». وفي المقابل، رفضت «رابطة أساتذة الجامعات الأميركية»، الإجراءات المستجدة من إدارات الجامعات للتعامل مع الاحتجاجات، باعتبارها «تقوّض حرية التعبير وتثني الطلبة والأكاديميين عن المشاركة في الاحتجاجات والتظاهرات». وكذلك الحال في «جامعة هارفرد»، حيث وزّع الطلبة منشورات تصف إدارة الجامعة بـ«المجرمة»، فيما أبدى خمسة أساتذة، وبأسلوب ساخر، استهجانهم القيود الجديدة التي فرضتها إدارتهم على طلابها، والتي شملت حظر كتابة الرسائل والشعارات، حتى بالطباشير، داخل الحرم الجامعي، متسائلين: «لماذا يتمتع أطفال مرحلة الحضانة بحرية أكاديمية أكبر ممّا يتمتّع بها طلاب هارفرد؟».
وفي معرض تقييمه السياسات الجديدة للجامعات، يرى موقع «ميدل إيست آي» أن إدارات هذه الأخيرة حسمت أمرها بـ«الوقوف في صف مصالح قوى اليمين المتطرف، على حساب قضية الدمج والتعددية التي يفترض أنها تكافح لأجلها». ويوضح الموقع البريطاني أن تلك السياسات تندرج ضمن حملة إعلامية جديدة ضد الأصوات الداعمة لفلسطين في المجتمع الأكاديمي الأميركي، تحمل اسم «عملية توفير الأمن لجامعاتنا»، وتتولّى إدارتها «شبكة المجتمع الآمن» (SCN)، وهي منظمة غير ربحية تُعنى بتعزيز أمن المجتمعات اليهودية في بلدان أميركا الشمالية، إلى جانب منظمة «Hillel International» التي تهدف إلى تعزيز الروابط بين اليهود الأميركيين وكيان الاحتلال.
ووفقاً للبيان الرسمي لحملة «توفير الأمن لجامعاتنا» (Operation SecureOurCampuses)، فإنّ فريق العمل التابع لها يضمّ محلّلين استخباريين مولجين مراقبة التطورات الحاصلة في الجامعات، وتقييم الوضع الأمني للمرافق اليهودية في أحرامها، إضافة إلى أطقم أمنية مختصة بخطط وإجراءات الطوارئ، وتعزيز التنسيق مع جهات عدة، كمسؤولي إنفاذ القانون والسلامة العامة داخل الولايات المتحدة – وفي طليعتهم «مكتب التحقيقات الفدرالي» – والمجموعات اليهودية العاملة داخل الجامعات، وذلك بغية إصدار توصيات حول الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين. وعلّقت منظمة «لجنة التضامن مع فلسطين في جامعة نيويورك» على نشاط تلك الحملة، بالقول إنه يأتي بدافع «خشية مديري الجامعات من الداعمين لإسرائيل، من فقدانهم للسيطرة على السردية»، وإن هؤلاء «قرّروا اتخاذ إجراءات صارمة ضد وجودنا على الإنترنت بغية خنق صوتنا، بدلاً من تلبية مطالبنا».
خضر خروبي