Skip to content
عبد الباري عطوان
حذّر السيّد عبد الله ابوحبيب وزير خارجيّة لبنان اليوم من “قنبلةٍ” على وشكِ الانفجار، وربّما تكون نتائجها أكثر خُطورةً من العُدوان الإسرائيليّ الحاليّ نفسه عندما قال في كلمته أمام المُجتمع الوزاريّ لمنظومة الاتّحاد من أجلِ المتوسّط “أنّ أكثر ما يُقلق لبنان هو الفتنة الداخليّة، كأحد تداعيات العُدوان الإسرائيليّ المُستمر على لبنان”، وأشار إلى بعض مؤشّرات هذه الفتنة “بالاحتِكاكات” التي تحدث حاليًّا بين النّازحين من مناطق الصّدام أو نتيجة القصف الدمويّ الإسرائيليّ وأشقّائهم الذين احتضنوهم وتعاطوا معهم بطريقةٍ أخويّةٍ إنسانيّةٍ تضامنيّةٍ غير مسبوقة في المناطق اللبنانيّة “الآمنة”.
السيّد بوحبيب الذي يُدرك جيّدًا خُطورة هذه الفتنة والحساسيّات الطائفيّة في وطنه اللبناني التي تُغذّيها أطراف خارجيّة، كان في قمّة الدبلوماسيّة ولم يُسَمّ الأُمور باسمها، وبالأحرى الألغام العديدة لهذه الفتنة الزّاحفة إلى لبنان وزارعوها، وهذا من حقّه، وبُعد نظره، ولكن سيباستيان لوكورنو وزير الدفاع الفرنسي كان أكثر جُرأةً عندما حذّر في المُؤتمر نفسه من خطرِ حربٍ أهليّةٍ وشيكةٍ في لبنان، والأخطار التي ستترتّب عليها في لبنان والمِنطقة.
دولة الاحتلال الإسرائيلي تُلقي بكُلّ ثقلها خلف هذه الفتنة، وتصبّ الزيت على ألسنةِ لهبها، وتُوظّف مئات، وربّما آلاف، العُملاء سواءً في بعض أجهزة الإعلام المحلّي، أو على شاشات وسائط التواصل الاجتماعي لإنضاجها وتفجيرها، خاصَّةً بعد فشَل عُدوانها على لبنان في تحقيقِ أهدافه في القضاء على المُقاومة التي يتزعّمها حزب الله، ونجاحها، أي المُقاومة في تجاوز أزمة الاغتِيالات لقيادتها، والتّعافي بسُرعةٍ، وملء الفراغات في المؤسّسات القياديّة والعسكريّة خاصَّةً، وإلحاق خسائر وجوديّة ضخمة بقصف قواعد العدو العسكريّة والاستخباراتيّة بدقّةٍ مُتناهيةٍ في حيفا وعكا وتل أبيب وصفد وطبريا ولسان الجليل، ووصول مُسيّراتها الانقضاضيّة إلى غُرفة نوم بنيامين نتنياهو في منزله بقيساريا، والأهم من ذلك تضاعف أعداد النّازحين في الشّمال الذين تعهّد نتنياهو بعودتهم إلى مُستوطناتهم.
الوزير بوحبيب كان مُصيبًا جدًّا عندما أشار إلى الفصل الأهم في سيناريو هذه الفتنة، ونحنُ نتحدّث هُنا عن أكثر من مِليون ونِصف المِليون نازح حتّى الآن من أبناء الجنوب والوسط الذين لجأوا إلى أشقّائهم في المناطق المسيحيّة والسنيّة والدرزيّة، والشّائعات التي يُروّج لها الكيان الصّهيوني وأجهزة مُخابراته وعُملائه، بالقول إنّ أعدادًا ضخمةً من المُسلّحين اندسّوا في أوساط هؤلاء، وفي حوزتهم أسلحة مُتقدّمة، ربّما تُستخدم ضدّ الأهالي الذين فتحوا لهم قُلوبهم ومنازلهم.
حرب البروباغندا الإسرائيليّة التي تسعى إلى تفجير الحرب الأهليّة للتّغطية على خسائرِ مُطلقيها وهزائمهم، تُركّز دائمًا على نقطةٍ مُهمّةٍ، وتُكرّرها ليلًا نهارًا، وذلك بالتّأكيد على أنّ حرب الإبادة والدّمار الشّامل التي تشنّها حاليًّا على لبنان تستهدف “حزب الله” وليس الشّعب اللبناني، وهذا قمّة الكذب والتّضليل، فإسرائيل شنّت حُروبًا عدّة على لبنان قبل وجود “حزب الله”.
الفتنة الإسرائيليّة لتفجير الحرب الأهليّة وتقسيم لبنان بالتّالي، تتلخّص في أربعة سيناريوهات في الوقتِ الرّاهن:
- الأوّل: بَذر بُذور الفرقة بين الحاضنة اللبنانيّة لحزب الله وبين بعض الأشقّاء المسيحيين وحُلفائهم في شرق وشمال لبنان، وتُوظّف جيشًا جرّارًا من الإعلاميين والنّشطاء على وسائط التواصل الاجتماعي لتحقيق هذا الهدف، إشعال فتيل الحرب الأهليّة من جديد.
- الثاني: تقسيم الحاضنة اللبنانيّة الشيعيّة إلى مُعسكرين، سياسيًّا واجتماعيًّا، وربّما عسكريًّا لاحقًا، ونحنُ نتحدّث هُنا عن التّحالف القويّ على الأرض بين حركتيّ “أمل” بزعامة الأستاذ نبيه بري رئيس مجلس النوّاب، وبين حزب الله، وكَشَفَ الخطاب الأوّل للشيخ نعيم قاسم نائب أمين عام حزب الله عن وعيٍ لافتٍ ودقيقٍ لهذا المُخطّط عندما بايع الأستاذ بري كمُمثّلٍ للحزب في كُل المُفاوضات السياسيّة الداخليّة والخارجيّة، وما الغارات الإسرائيليّة الدمويّة على مدينة صور، معقل حركة أمل، وترحيل سُكّانها إلّا أحد وسائل الضّغط الفاشلة لفكّ هذا التّحالف الصّلب.
- الثالث: تأليب حاضنة الحزب ضدّ قيادته سواءً باستهداف مُؤسّساته الاقتصاديّة مِثل “القرض الحسن” وبثّ شائعات عن اختفاءِ أموالِ المُودعين.
- الرابع: مُحاولة فك عرى تحالفات “حزب الله” مع التيّار الوطني الحُر شريكه المسيحي، واتّضحت هذه الخطوة في التّعاطي الإعلامي المسموم من قِبَل بعض أعداء حزب الله، مع مُقابلة رئيسه السيّد جبران باسيل مع قناة العربيّة، والإيحاء باتّخاذه مواقف مُعادية للمُقاومة وفكّ تحالفه مع “حزب الله”، وتقويله ما لم يَقُل، فالنّص الرسميّ للمُقابلة يقول عكس ذلك، فالسيّد باسيل لم يتراجع عن مواقفه الاستراتيجيّة مُطلقًا، وأكّد أكثر من مرّةٍ في المُقابلة على ضرورة توحّد اللبنانيين جميعًا في مُواجهة الاحتلال وحربه، ورفض السيّد باسيل أي مطالب بنزعِ سلاحِ حزب الله، وقال بكُلّ شجاعةٍ، إنّ أيّ مطالب بنزعِ سلاحِ الحزب في ظِل هذا العُدوان الإسرائيليّ هو قمّة الخيانة.
ختامًا نقول إنّ هذا الطّابور الخامس الذي تقف خلفه إسرائيل، وأمريكا وبعض الحُكومات العربيّة للأسف لإغراق لبنان في أتون حربٍ أهليّة، هو نفسه تقريبًا، وبات يضم في صُفوفه بعض أبناء وأحفاد الذين فجّروا الحرب الأهليّة في السّبعينات من القرن الماضي، وشيطنوا النّازحين السوريين، وكُل ما هو عربي، وحاولوا إسقاط هُويّة لبنان العربيّة إلى الأبد، ولكنّ التاريخ لن يُعيد نفسه، لأنّ لبنان تغيّر، ومُقاومته باتت أكثر قوّةً وشرعيّة، وإن كان أعداء لبنان، والسّاعين لهزّ أمنه واستِقراره وتجويع شعبه وإذلاله، لم يتغيّروا، وإنْ باتوا أكثر ضعفًا واستِنزافًا.
شُكرًا للسيّد أبو حبيب الذي أسرع بتعليق الجرس، والتّحذير من هذه الفتنة التي تُريد الإجهاز على لبنان وشعبه ووحدتيه الترابيّة والوطنيّة، والشُّكر موصولٌ أيضًا لكُلّ أشقّائنا من أبناء الطّوائف الثّلاث المسيحيّة والسنيّة والدرزيّة الذين ارتقوا إلى قمّة الإنسانيّة والوطنيّة بفتح قُلوبهم وبُيوتهم لأشقّائهم النّازحين، ووقَفوا بهذه المواقف المُشرّفة في وجهِ الفتنة التدميريّة وعُنوانها الأبرز الحرب الأهليّة.
لبنان الصّامد المُقاتل يتصدّى للاحتلال بشجاعةٍ ومسؤوليّة، ويفضح أكاذيب هذا العدو المُتغطرس قاتل الأطفال، وسيُحافظ على إرثه العظيم في الانتِصارات.. والأيّام بيننا.