انهيار الائتلاف الحاكم: ألمانيا تدفع ثمن سياساتها «الأميركية»
لندن | لطالما كانت صناعة السيارات الألمانية تجسيداً لازدهار أكبر اقتصاد في القارة الأوروبيّة؛ ولذا، كان الإعلان الأحدث من قبل «فولكس فاجن» – التي أسسها النازيون وتعد أكبر شركة لصناعة السيارات في البلاد – عن أنها تخطط لإغلاق المصانع وتسريح العمال، تجسيداً للأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها ألمانيا ونذيراً بمستقبل يبهت بشكل مطرد. كذلك، لم يكن انهيار الائتلاف الحاكم – بعد أن أقال المستشار أولاف شولتس، وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم حزب «الديموقراطيين الأحرار الليبراليين»، الشريك الأصغر في الحكومة – مفاجئاً لأحد، بل إن كثيرين اعتبروا الخطوة متأخرة، فيما تساءلت صحف برلين عن السبب الذي جعل شولتس ينتظر كل هذا الوقت لمواجهة الحقيقة، في ظل التناحر المستمر بين مكونات الحكومة المفتقدة إلى الانضباط، وعجزها البنيوي عن إدارة الانعكاسات السلبيّة لتورطها في الحرب الأميركيّة العسكريّة والاقتصاديّة ضد روسيا.
ولم يكن الائتلاف الذي يقوده شولتس مستقراً منذ البداية، بالنظر إلى اختلاف توجهات مكوناته. إذ اضطر «الحزب الاجتماعي الديموقراطي»، بعد انتخابات عامة غير حاسمة في 2021، إلى الدخول في تحالف مع «الديموقراطيين الأحرار الليبراليين» وحزب «الخضر»، كي يمكن لحكومة يشكلها شولتس نيل ثقة البوندستاغ (البرلمان الألماني). وأُعلن عن الحكومة حينها في أجواء من التفاؤل، فيما أطلقت الأخيرة، رغم الخلافات الأيديولوجية العميقة بين مكوناتها، برنامجاً تقدمياً يعد ببداية جديدة لألمانيا، بعد مدة من الجمود الاقتصاديّ في نهاية عهد المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل. كما تعهد شولتس بأن سياسة التحول الأخضر ستجلب «معجزة اقتصادية» جديدة للدولة التي تعدّ قاطرة الاتحاد الأوروبي برمته، وتنبأ بمعدلات نمو لم تشهدها بلاده منذ سنوات الازدهار في خمسينيات القرن العشرين.
وبالفعل، تم تجاوز تفاوت التوجهات السياسيّة لمكونات الحكم عبر إنفاق الأموال العامّة؛ إذ أراد «الحزب الاجتماعي الديموقراطي» تدعيم دعم دولة الرفاه التي اعتاد عليها الألمان، وأراد «الخضر» اتخاذ إجراءات جذريّة بشأن تغير المناخ، فيما كان «الديموقراطيون الليبراليون» مهووسين بمنع ألمانيا من التورط في الدّيون. وإذ كان ممكناً، في الأشهر الأولى من عمر الحكومة التوفيق بين هذه المتعارضات عبر رمي الأموال عليها، إلا أن شهر العسل هذا انتهى بسبب العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا في شباط 2022، وخرجت سريعاً كل خطط الحكومة عن مساراتها، لتجد الأخيرة نفسها تجاهد للتعايش مع فقدان إمدادات الغاز الروسي زهيد الثمن، والذي كان طوال عقود سرّ التنافسيّة الاقتصاديّة الألمانية ومنصة تمكين صناعاتها على التصدير.
هكذا، اضطر شولتس ووزراؤه إلى الخضوع للرغبات الأميركيّة، وانخرطوا في حرب اقتصاديّة شاملة ضدّ روسيا؛ فاستبدلوا إمدادات الطاقة الروسيّة ببدائل مكلفة، وتراجعوا عن خطط الطاقة الخضراء لمصلحة تمديد عمر المحطات النووية واستخدامات الفحم الحجري. كما أعادوا توجيه الدفاع الألماني والسياسة الخارجية لتتضمن إمدادات ضخمة من الأسلحة إلى الجيش الأوكراني، ومعونات بمليارات اليوروهات لنظام كييف اليميني، وبرنامجاً هائلاً للتسلح بغرض تغيير عقيدة الجيش الألماني من الدّفاع إلى قوّة هجوميّة – وفق التوجيهات من واشنطن.
أقر هابيك بأنه يتوقع أياماً صعبة عند تمرير التشريعات في البوندستاغ
ومع تبخّر الأموال، فإن توحد الائتلاف الحاكم في الخضوع لإرادة واشنطن، لم يعد كافياً لرأب التصدعات الأيديولوجية بين المكونات، فيما بدأ التذمر الشعبي من عجز الحكومة يتسع، إلى درجة أن أحزاب الائتلاف سُحقت تماماً في الانتخابات الإقليمية في شرقيّ ألمانيا، لمصلحة الأحزاب الشعبوية الهامشيّة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومع فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية الأسبوع الماضي – بعدما كان تعهد لناخبيه بفرض تعريفات جمركيّة على الصادرات الأوروبية لبلاده لإنهاء عجز الولايات المتحدة التجاري المزمن مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيضر تحديداً بالصناعات الألمانية –، اختار شولتس أن يخرج عن صمته الأبدي في مواجهة التناحر الوزاري المستمر. وفي كلمات موجزة (مساء الأربعاء الماضي)، أسقط الحكومة من خلال إقالة ليندنر، متهماً الأخير بتغليب مصلحة حزبه على مصلحة البلاد، واستخدم شتائم في حقه أثارت دهشة الصحافيين من مثل «أناني» و «مفتقد للمسؤولية». وقال شولتس إن الخلافات مع زعيم «الحزب الديموقراطي الليبرالي» حول سبل استعادة النمو إلى الاقتصاد الألماني، لم يعد من الممكن جسرها، معلناً أنه سيدعو البوندستاغ إلى التصويت على الثقة في حكومته في الخامس عشر من كانون الثاني المقبل.
وكانت المحكمة الدستورية الألمانية قد رفضت، في العام الماضي، ميزانية شولتس على أساس أنها انتهكت «سقوف الديون» المنصوص عليها في دستور البلاد، وهو ما تسبب بفجوة مالية هائلة تشاجرت أحزاب الائتلاف الثلاثة على طرق سدّها؛ إذ أراد «الاجتماعي الديموقراطي» و»الخضر» تعليق «سقوف الديون» الدستوريّة للسماح للدولة باقتراض المزيد من الأموال من أجل دفعها لأوكرانيا والاستثمار في البنية التحتية والتسلّح، لكن ليندنر قاوم بحزم تلك التوجهات، ما جعل التعايش بين الجانبين مستحيلاً. وسيخلف ليندنر في منصب وزير المالية، يورغ كوكيس، المستشار الاقتصادي المقرّب من شولتس. على أن المعارضة التي يقودها «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» المحافظ، رفضت الجدول الزمني الذي أعلنه شولتس، وحثت على حل الحكومة، وإجراء انتخابات عامّة مبكرة. وحذّر فريدريش ميرز، رئيس الحزب المذكور، من أن «مدة طويلة من عدم الاستقرار السياسيّ ستضاعف من أوجاع ألمانيا»، مشيراً إلى أنّه لا يجد تبريراً منطقيّاً للانتظار حتى موعد 15 كانون الثاني للتصويت على الثقة بالحكومة، لأن هذا يعني أن أقرب انتخابات مبكرة يمكن إجراؤها ستكون في آذار المقبل، و»البلاد ببساطة لا يمكنها تحمل حكومة من دون غالبية في برلين، على مدى عدة أشهر». وقال ميرز إن الكتلة البرلمانية التي تضم إلى حزبه حزب «الاتحاد الاجتماعي المسيحي»، وافقت على مطالبة شولتس رسمياً بإجراء تصويت على الثقة «على الفور، في بداية الأسبوع المقبل على أبعد تقدير»، كي تتسنى الدعوة إلى انتخابات عامة في كانون الثاني، في حال فشل الحكومة في نيل الثقة.
وأيدت شخصيات بارزة من عتاولة رأس المال الألماني رؤية المعارضة، في حين تقاطعت عدة جهات على التحذير من مخاطر الفراغ السياسي. ونقلت الصحف تصريحاً عن سيغفريد روسوورم، رئيس أكبر تجمع لمصالح الأعمال في ألمانيا قال فيه: «في ضوء التغيرات في الوضع السياسي العالمي – بعد انتخاب ترامب -، والاتجاهات السلبية للاقتصاد الألماني، فإننا نحتاج إلى حكومة جديدة وفعالة، مدعومة بغالبية برلمانية في أقرب وقت ممكن»، فيما اعتبر كريستيان سوينغ، رئيس «دويتشه بنك»، أن ألمانيا «تواجه تحديات اقتصادية هائلة، ولذلك لم يعد بإمكاننا الوقوف مكتوفي الأيدي، لأن كل شهر من الفراغ السياسي قد يعني عاماً من النمو الاقتصادي المفقود».
لكن مصادر شولتس أكدت أن المستشار سيلتزم بالجدول المعلن لموعد جلسة الثقة، فيما وقال روبرت هابيك، أحد زعيمي حزب «الخضر» ونائب شولتس في الحكومة، إن «حكومة بمن تبقى في الائتلاف ستواصل اتخاذ القرارات حتى ذلك الحين»، لكنه أقر بأنه يتوقع أياماً صعبة عند تمرير التشريعات في البوندستاغ، بما فيها إقرار الميزانية العامة لعام 2025. وكانت ارتفعت تكاليف الاقتراض طويلة الأجل في ألمانيا إلى أعلى مستوى لها منذ أشهر، بعد الإعلان عن فوز ترامب في الرئاسيات الأميركيّة وقرار شولتس بإقالة وزير ماليته. كما سبق للخبراء أن توقعوا، حتى قبل انتخاب ترامب، أن ينكمش الإنتاج المحليّ الألمانيّ للعام الثاني على التوالي في عام 2024، ما يعمق حال ركود اقتصادي لم تشهده البلاد منذ أوائل عام 2000، وسط مشكلات عميقة تواجهها الصناعات الاستراتيجية في البلاد، وعلى رأسها السيارات والكيماويات والهندسة.
سعيد محمد