إسرائيل تُهلك الحرث والتربة: الإبادة… بيئية أيضاً
دير البلح | على مدار 13 شهراً من القصف المستمر، أسقط جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة أكثر من 85 ألف طن من القنابل، وهي كمية تعادل أكثر من خمسة أضعاف قوة قنبلة هيروشيما التي أُلقيت على اليابان عام 1945. وتسبّب هذا القصف في تدمير واسع للبنية التحتية، وأحدث تلوّثاً خطيراً في التربة الزراعية في القطاع، بشكلٍ يهدد بإعاقة الزراعة لعقود طويلة قادمة، وفقاً لبيان صادر عن «سلطة جودة البيئة الفلسطينية». وفي هذا السياق، يؤكد الباحث البيئي والمسؤول في الجهة المشار إليها، مصطفى إبراهيم، أن التلوّث الكبير في التربة، والناجم عن المواد الكيمائية السامة «يهدد الأمن الغذائي لعقود قادمة»، مشيراً، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن استهداف البيئة الفلسطينية «يأتي ضمن سياسة ممنهجة تسعى لزيادة معاناة الأجيال الحالية والمستقبلية في غزة».
ولم تقتصر أضرار الانفجارات على انتشار مواد سامة وحطام في التربة، وفقاً لإبراهيم، بل امتدّت إلى الهواء أيضاً، ما جعل هذه الملوّثات جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للسكان الذين يتعرضون لها من دون أي وسائل حماية. ويصف إبراهيم تداعيات التلوث على الصحة العامة، بالخطيرة، وسط ما نجم عنها من معاناة في صفوف السكان، وخصوصاً الأطفال وكبار السن، ومن مشاكل تنفسية وهضمية وجلدية، محذّراً من أن من شأن هذه الملوّثات، على المدى البعيد، أن «تزيد من احتمالية الإصابة بالأمراض السرطانية». وبحسب إبراهيم، فإن تأثير القصف طاول أيضاً الزراعة الحيوانية، حيث دمّرت الهجمات مزارع الأبقار والأغنام، بالإضافة إلى مزارع الطيور مثل الدواجن، ومزارع الأسماك التي تضررت بالقصف أو بفعل انقطاع الكهرباء. كما أسفر القصف عن تدمير كبير في التنوع البيولوجي المحلي، حيث تمّ استهداف المساحات الخضراء والقضاء على مساحات واسعة من الغطاء النباتي، ما أثّر سلباً على الحياة البرية، وتسبب في انقراض أنواع من الكائنات الحية التي كانت جزءاً من النظام البيئي في غزة.
وهنا، يذكر إبراهيم أن حوالي 48% من الأشجار في قطاع غزة، بما في ذلك الأشجار المعمّرة مثل النخيل والجميز والتوت والكينا والسرو، تعرّضت للتجريف، لافتاً إلى أن تلك الأشجار كانت تؤدّي دوراً حيوياً في منع انجراف التربة والحد من تقلبات المناخ. ويضيف أن استهدافها أضرّ بشدة بجودة الهواء والتنوع البيولوجي، لافتاً إلى أن سكان شمال غزة لجأوا إلى قطع ما تبقّى من الأشجار للحصول على الحطب بسبب منع إسرائيل دخول غاز الطهو بشكل كامل. كما يبيّن إبراهيم أن تدمير الغطاء النباتي أدّى إلى تدهور النظام البيئي المحلي الذي يضم ما بين 150 و200 نوع من الطيور، متحدّثاً عن نفوق أعداد كبيرة منها، أو هجرتها، بسبب تدمير بيئتها الطبيعية.
علاوةً على ذلك، أدى القصف الإسرائيلي إلى انبعاث كميات هائلة من الغازات الكربونية والملوّثات، ما أسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة آثار التغير المناخي في غزة والدول المجاورة. وفي هذا الإطار، كشفت دراسة حديثة أجراها فريق دولي من الباحثين ونشرتها جامعة «كوين ماري البريطانية»، عن الأثر البيئي الكبير للحرب الإسرائيلية على القطاع. وأظهرت الدراسة أن الانبعاثات الناتجة من الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري، خلال الـ120 يوماً الأولى من الحرب، والتي امتدت من تشرين الأول 2023 إلى شباط 2024، تجاوزت الانبعاثات السنوية الصادرة عن 26 دولة. ولم يتوقف التأثير البيئي عند الحد المذكور، إذ توقّعت الدراسة أن تتجاوز الانبعاثات الناجمة عن إعادة إعمار غزة الانبعاثات السنوية لأكثر من 135 دولة، ما يعكس حجم التحديات البيئية والاقتصادية المرتبطة بعملية إعادة البناء.
وإلى جانب الأضرار البيئية، تعرضت الأراضي الزراعية لعملية تدمير ممنهج تهدد الأمن الغذائي حتى بعد انتهاء الحرب، علماً أن الأراضي الزراعية في القطاع كانت تشكّل قبل الحرب نحو 41% من مساحته (151 كيلومتراً مربعاً من أصل 365 كيلومتراً مربعاً) وتُعد مورداً حيوياً للاقتصاد المحلي. وفي عام 2022، كان القطاع الزراعي يساهم بنسبة 11% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لتقرير صادر عن «الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني». إلا أن النسبة المشار إليها تراجعت بشدة نتيجة الاستهداف المنهجي للزراعة خلال الحرب. وأظهرت بيانات حديثة صادرة عن «مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية» (يونوسات) و«منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة» (فاو)، صدرت في حزيران الماضي، أن أكثر من نصف الأراضي الزراعية في غزة، وتحديداً 57% من الحقول المخصّصة للمحاصيل الدائمة والأراضي الصالحة للزراعة، شهدت تدهوراً كبيراً في إنتاجيتها وصحة تربتها، ما يمثل تهديداً خطيراً للأمن الغذائي في القطاع.
أدّى القصف الإسرائيلي إلى انبعاث كميات هائلة من الغازات الكربونية والملوّثات
وفي تقرير نُشر في الشهر نفسه، أفاد «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان» بأن إسرائيل استولت على أكثر من ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية في غزة، من خلال ضم هذه الأراضي إلى ما يُعرف بـ«المنطقة العازلة» أو تدميرها بشكل مباشر. وقد أدّى هذا الأمر، بحسب «المرصد»، إلى انهيار كبير في الإمدادات الغذائية المحلية، وسط حرمان سكان القطاع من الغذاء والمساعدات الإنسانية، ما فاقم الأزمة الغذائية، واعتُبر شكلاً من أشكال التجويع المتعمّد، الذي يرقى إلى جريمة إبادة جماعية.
من جهته، يؤكد نزار الوحيدي، المدير العام لـ«دائرة التربة والري في وزارة الزراعة» في غزة، أن الحرب الجارية تسببت في تغيرات مناخية حادّة أثّرت بشكل مباشر على القطاع الزراعي، موضحاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «ارتفاع درجات الحرارة نتيجة للعدوان الإسرائيلي يزيد من معدلات تبخر المياه، ما يؤدي إلى انخفاض مستوى الرطوبة في التربة، وإلحاق أضرار كبيرة بالمحاصيل الزراعية ويجعلها أكثر عرضة للجفاف». ويشير إلى أن جيش الاحتلال استهدف بشكل ممنهج قطاع المياه، الذي يُعد من المكوّنات الأساسية للحياة والبيئة، ما أدّى إلى انخفاض كميات المياه المتاحة للسكان بنسبة تصل إلى 70%. وبسبب ذلك، تقلّصت حصة الفرد اليومية من المياه إلى «ما لا يزيد عن 8 ليترات فقط، وهي كمية لا تفي بالحد الأدنى للاحتياجات الأساسية، فضلاً عن استخدامها في الري الزراعي»، بحسب الوحيدي.
وإذ يوضح أن هذا النقص الحاد في المياه يشكل تهديداً خطيراً على أي جهود مستقبلية تهدف إلى إعادة إحياء القطاع الزراعي، فهو يرى أنه «في ظل هذه الظروف، يصبح من شبه المستحيل استعادة القدرة الزراعية للسكان، خاصة أن المزارعين يواجهون بالفعل صعوبات هائلة بسبب القصف المستمر والحصار المفروض على القطاع». لذا، يعتبر الوحيدي أن البيئة الفلسطينية في غزة «بحاجة ماسة إلى تدخل دولي عاجل، والتوصل إلى حلول بيئية مستدامة لمعالجة التلوث في التربة وتوفير المياه الكافية لإعادة تأهيل القطاع الزراعي»، داعياً إلى تطبيق القوانين الدولية التي تجرّم استخدام البيئة كسلاح في النزاعات المسلحة.
عبدالله يونس